حكومة الحبيب الجملي..الحظوظ والمطبّات



        انتهت مرحلة المشاورات بين حركة النهضة وبقية الأحزاب والأطراف المعنية بالحكومة القادمة، لتبدأ مرحلة المفاوضات بعد تعيين النهضة لمرشحها المستقل السيد الحبيب الجملي الذي تولّى رئيس الجمهورية تكليفه يوم الجمعة 16 نوفمبر 2019 بتكوين الحكومة خلال شهر. فما هي حظوظ منح البرلمان ثقته لحكومة الجملي؟ وما هي أبرز مطبّات المفاوضات؟ والأهم من ذلك ما هي حظوظ نجاح هذه الحكومة في الاستجابة للتطلعات الشعبية المعبّر عنها خلال الحملة الانتخابية ورفع التحدي في معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية ذات الأولوية وتحسين عيش التونسيين؟

        سجّلت أوساط عديدة ارتياحها لقرار حركة النهضة باعتبارها الحزب الفائز بأغلب المقاعد بمجلس نواب الشعب، ترشيح شخصية مستقلة
على رأس الحكومة. ولئن أبدت أغلب الأطراف التي حاورها رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي رغبتها في تعيين آخر، فإنها عبرت عن استعدادها للتفاعل الإيجابي مع السيد الحبيب الجملي. وقد بعث رئيس الحكومة المكلّف بدوره رسائل إيجابية من خلال تصريحاته الإعلامية حين ركز على استقلاليته  ورغبته في التواصل مع مختلف الفعاليات السياسية والاجتماعية دون إقصاء، وعن أهمية البرنامج الحكومي والسعي إلى تقليص عدد الوزراء وإعطاء الأولوية في اختيارهم للكفاءة، سواء كانوا من المتحزبين أو من غيرهم. وقد شرع الجملي في لقاءاته الأولية منذ  صباح الثلاثاء 19 نوفمبر مع ممثلي الاحزاب وفي مقدمتهم وفد حزب قلب تونس بقيادة نبيل القروي.

        هذه الرغبة من الرئيس المكلّف في الانفتاح على مختلف الأطراف، والتي قد تشمل أحزابا غير ممثلة بالبرلمان، لكسب أوسع حزام سياسي داعم للحكومة وقادر على مواجهة تحديات مرحلة دقيقة، تواجهها إعلانات معاكسة، على غرار تصريح رئيس النهضة بأنّ حزب قلب تونس لن يشارك في الحكومة، واشتراط التيار الديمقراطي وحركة الشعب وائتلاف الكرامة عدم الدخول في حكومة تضمّ هذا الأخير. وهذا المطبّ السياسي قد يدفع إلى تشكيل حكومة من النهضة والتيار والائتلاف والشعب مع بعض المستقلين، قد تحوز على تزكية ضعيفة بالبرلمان، لكنها ستختزن  مخاطر غير خافية من التوتر وعدم التضامن الحكومي المطلوب بين أطرافها، زيادة على ما سيقابلها من معارضة واسعة من كتل نيابية مؤثرة.

وإذا تعذّر التوافق مع التيار والشعب، سيكون الالتجاء إلى التفاهم المعلن مع قلب تونس لا غنى عنه، بما يدفع إلى التحاق ائتلاف الكرامة بالمعارضة، وانضمام تحيا تونس وكتلة الإصلاح الوطني إلى الحكم. وهذه تركيبة، على غرار ما سبقها،  لا توفّر شروط الاستقرار السياسي  المرجو من حكومة ما بعد انتخابات 2019.

        قد يكون المهم بالنسبة لرئيس الحكومة المكلف ومن ورائه حركة النهضة التي رشحته، الحصول على الأغلبية المطلقة في البرلمان يوم جلسة تزكية الحكومة، في انتظار تغير المشهد السياسي تدريجيا بعد ذلك والتفاعل معه بحسب مستجداته، لكن يظلّ الأهمّ في نظرنا، كفاءة الحكومة وقدرتها على الإنجاز وضمان الاستقرار السياسي والتهدئة الاجتماعية، بما يساعد على توفير شروط النجاح في مواجهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وتحسين عيش المواطنين. وهنا تبدو المطبات السياسية أكبر، وفرص النجاح أبعد.

         فالمناكفات السياسية بين الأطراف التي تصنّف نفسها في خط الثورة وأهدافها، على غرار حركة النهضة والتيار الديمقراطي وائتلاف الكرامة وحركة الشعب،  التي تجاوزت حدود ردود الأفعال المتفهمة والمحدودة، صارت مزعجة ومربكة، وباتت خطرا على المسار. كما أنّ الاستمرار في الفرز والإقصاء وتوتير الأجواء بين الفرقاء السياسيين، لم يعد له من مبررات وصار ظاهرة سلبية معطّلة وعائقا غير مقبول أمام الحاجة إلى التقارب والتعايش والتعاون على رفع التحديات وخدمة المصلحة العامة التي يستفيد منها الجميع.

        ليس من مصلحة رئيس الحكومة المكلّف ولا حركة النهضة إطالة فترة المفاوضات، ولا تتحمل البلاد مزيد بقاء حكومة تصريف الأعمال، بعد الشغورات الواسعة داخلها، وعدم الارتياح لحجم التعيينات والترقيات في هذه الفترة السابقة لرحيل يوسف الشاهد وحالة الترقب في أوساط الإدارة وعالم المال والأعمال. لذا يبدو من الأنسب البناء على المؤشرات الإيجابية لمختلف الأطراف التي لا تخفي رغبتها في المشاركة في الحكومة. فقد دلّت تجارب السنوات الأخيرة على غرار ما حصل لحزبي آفاق تونس والمشروع، أن مغادرة الحكم  أو البقاء خارجه أشدّ ضررا من المشاركة فيه وتحمل تبعاته. وهذا أحد الدروس التي قد تشجع التيار الديمقراطي على المشاركة في الحكومة. كما أنّ جلسات التشاور المعلنة، بين الأطراف، رغم الخصومات الحادة والتصريحات الموتورة أحيانا كما هو الحال بين حركتي النهضة والشعب على سبيل الذكر لا الحصر، مؤشرات إيجابة على تذليل الخصومات وإمكانية التفاهم والتعايش.

        ولا تبدو  التصويتات داخل البرلمان مؤخّرا بعيدة عن هذه الموجات الإيجابية التي تخترق التصريحات الإعلامية السلبية. فمن الدّلالة بمكان نجاح النهضة في حشد التأييد المطلوب لمرشحها راشد الغنوشي الذي فاز برئاسة مجلس نواب الشعب، في مشهد  منقسم كما لم يحصل من قبل، وفوز سميرة الشواشي من قلب تونس بالنياية الأولى للرئيس وفوز طارق الفتيتي من كتلة الإصلاح الوطني  بالنيابة الثانية. فتلك الاتجاهات في التصويت داخل البرلمان  عناوين تفاهمات في المفاوضات حول تشكيل الحكومة ومستقبل التحالفات السياسية.

        نهنّئ السيد الحبيب الجملي بثقة حركة النهضة في شخصه وكفاءته، ونرجو له التوفيق في مهمة تكوين حكومته من وزراء من مختلف الطيف السياسي، سمتهم الكفاءة ونظافة الأيدي والقدرة على الأإنجاز، ونيل المصادقة عليها بالبرلمان قبل انقضاء الشهر. ويتجه اهتمامنا أكثر إلى اختبار توافق مختلف الشركاء على وثيقة حكم ناجعة وواضحة في أولوياتها وإجراءاتها المستعجلة وخياراتها في الإصلاحات المستوجبة.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 133، تونس في 21  نوفمبر 2019

https://scontent.ftun11-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/p720x720/76609899_2851210038236095_5578849216819625984_o.jpg?_nc_cat=111&_nc_ohc=XfJxRiQ3Am0AQm6sFm6osqCj3kT_c7DY7oM6YwVb9nhFBBJhAglMracIA&_nc_ht=scontent.ftun11-1.fna&oh=f8f87fc62f28999fbde20d0e29e7cbb9&oe=5E81CB2F
مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: