عشيّة غلق سنة من الانقلاب: فرص للإنقاذ ومخاطر انهيار أرجح
دخلنا الشهر الأخير من سنة انقلاب 25 جويلية. وبقدر ما يمضي رئيس سلطة الأمر الواقع قيس سعيد في السيطرة على مختلف السلطات وتجميعها في يديه، يكشف عن عجز إضافي في تسيير دواليب الدولة والمجتمع، وتتراجع ثقة التونسيين بقدرته على “تصحيح المسار” وتحسين أوضاعهم المعيشية. فشتّان بين امتلاك السلطات، وامتلاك العقول والقلوب. وشتان بين التحكّم في القرار والقدرة على حلّ المشاكل الحقيقية للدولة والمجتمع. وشتّان بين العنتريّات والإنجازات.
وبعد سنة واحدة من الانقلاب، عادت نسبة التشاؤم لترتفع بين عموم المواطنين حول مستقبل البلاد التي تغرق في أزمتها المركبة والمتراكمة على جميع المستويات، والتي تحولت إلى كارثة وطنية شاملة. وتزيد الأخبار والمؤشرات السلبية في حيرة الناس، سيما ما يتصل بمعيشتهم اليومية. على غرار ارتفاع نسبة البطالة أو مؤشر الأسعار، أو انقطاع بعض المواد الأساسية مثل الزيت والسكر، أو مخاطر مشاكل قادمة في الطاقة وآثارها على القدرة الشرائية لمستعملي المحرّكاتت أو على تكلفة النقل والكهرباء وغيرهما من الخدمات. ويكفي مثالا ما كشفت عنه مؤخرا مصادر مسؤولة من رفض العديد من البنوك الأجنبية تمويل شحنات مواد بترولية لفائدة السوق التونسية، بسبب تراجع التصنيف السيادي للدولة التونسية من قبل وكالات التتصنيف الانتمائي. كما رفض المزودون إمهال الشركة التونسية لصناعة التكرير تسهيلات في الخلاص. واشترطوا خلاص الشحنات السابقة قبل تنفيذ الشحنة الموالية. كما توجد تهديدات جدية بفسخ عقود مما قد يسبب اضطرابات في التزود بالسوق الداخلية .
وإذا رمنا التشاؤل وسط هذه الأوضاع الصعبة غير المسبوقة، نقول أن الأخبار والمؤشرات تأتي متضاربة. فعلى الصعيد الاجتماعي تبدو الحكومة مزهوّة خلال الأيام الأخيرة بتصريحات بعض مسؤولي صندوق النقد الدولي التي ثمّنت برنامجها للإصلاح وشجعتها على المضي في إنفاذه، ووعدت باحتمال بدء المفاوضات معها خلال الأشهر القليلة القادمة. وربما يكون ذلك مؤشرا على تغيّر إيجابي في المواقف الخارجية التي بدت نقدية أكثر للاوضاع بعد 25 جويلية 2021. وفي المقابل قرّرت الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل المنعقدة يومي 26 و27 جوان 2022 الدخول في إضراب عام يشمل الوظيفة العمومية والقطاع العام من أجل مطالب عديدة في مقدمتها فتح مفاوضات اجتماعية مع الحكومة حول الترفيع في الأجر الأدنى وتعديل الأجور. وذلك بعد الإضراب العام الناجح في القطاع العمومي يوم 16 جوان. كما جدّدت الهيئة الإدارية “رفضها المطلق للبرنامج الوطني للإصلاح الذي طرحته الحكومة، والذي يستهدف قوت التونسيات والتونسيين ومكاسبهم وحقوقهم ويفرّط في ممتلكات الشعب وسيادته” حسب نصّ بيان الاتحاد. بما يؤشّر ضمنيا وبوضوح عن رفض منظمة الشغالين للإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد الدولي كما تراها الحكومة، التي رهنت جزءا هاما من موارد ميزانية 2022، بعقد اتفاق قرض مع الصندوق. وهذه إحدى أهم مشكلات المرحلة القادمة، وأهم مواضيع تصادم محتمل بين السلطة واتحاد الشغل خلال الفترة القريبة القادمة. بما يرشّح البلاد لهزات اجتماعية لن تساعد على الاستقرار والإصلاح.
أمّا على الصعيد السياسي فتجري خطوات سلطة الانقلاب وداعميها حثيثة على طريق تنظيم استفتاء 25 جويلية 2022 حول دستور “الجمهورية الجديدة”، في لا مبالاة تامة بالانتقادات الداخلية والخارجية، والمقاطعة المدوّية للحوار الوطني الإقصائي والجدال حول الدستور الذي أُعدّ في الغرف المغلقة ولم يطّلع على مسودته حتى المشاركين في الحوار المزعوم على قلتهم وولائهم. فضلا عن قصر المدّة المقرّرة بأقل من شهر بين نشره للعموم والتصويت عليه برمّته بنعم أو لا. وفي المقابل تصعّد المعارضة، وخاصة جبهة الخلاص الوطني والأحزاب الخمسة المنخرطة في حملة إسقاط الاستفتاء والدستوري الحرّ، تصعّد في خطابها وتحرّكاتها الميدانية، الرافضة للانقلاب ولمسار 25 جويلية الأحادي ولأجندة قيس سعيد، والمشكّكة في نزاهة أي احتكام لصناديق الاقتراع. والداعية إلى مقاطعة الاستفتاء.
لا يزال الخبراء والفاعلون يرون فرصا للإنقاذ رغم خطورة الوضع وتعقيداته، ويعطون الأولوية للمسائل الاقتصادية والاجتماعية، دون إغفال أهمية المسألة السياسية. وفي هذا الإطار يبادر الاتحاد العام التونسي للشغل بعرض مقترحاته المضمونية على جميع الأصعدة، بما في ذلك تعديل دستور 2014، رغم تسجيل بيان الهيئة الإدارية الأخير “ما يشهده المسار السياسي القائم من تعرّج وتعثّرات تبيئ بمخاطر كثيرة”. وفي نفس السياق تستمرّ مجهودات جبهة الخلاص الوطني من أجل بلورة مقترحات اقتصادية واجتماعية وسياسية وقانونية للإنقاذ، تكون من أهم مخرجات حوار وطني إدماجي جامع، لا يستني طرفا. كما تعلن أطراف أخرى من المعارضة اشتغالها على حلول للخروج من الأزمة وإنقاذ البلاد. وتتقاطع هذه الأطراف جميعا في تأكيدها على أنّ فرص الإنقاذ لا تزال ممكنة رغم كل المخاطر.
ومع الإبقاء على كل مشاعر التفاؤل التي لا غنى عنها في كل الأحوال. ومع أنّ دوام الحال من المحال تظل قاعدة ذهبية لشحذ العزائم. يبدو من المهم التذكير والتأكيد على أنّ وحدة موقف المعارضة وخطتها وجهودها تظل شرطا أساسيا لتموقعها بديلا ممكنا. وأنّه لا غنى عن تقاطع مختلف الفاعلين على هذا الصعيد، من أحزاب ومنظمات ومجتمع مدني وشخصيات وطنية، مع احترام خصوصيات كل طرف، حتى يقدر البديل على فرض نفسه في الواقع. وهذا ممّا يعزّز فرص الإنقاذ بلا شك.
وإذا استمر العناد بين أطراف المعارضة وغلبت المصالح الجزئية والمناكفات وتصفية الحسابات، ستتبدّد بلا شك فرص الإنقاذ.
ومهما كان مضمون الدستور الجديد أحسن أو أسوأ من دستور 2014، فإنّ المؤشرات شبه قاطعة، على أنّ نسبة المشاركة في الاستفتاء ستكون ضعيفة جدّا. ولهذا السبب بالذات لم يتقيد قيس سعيد بأية التزامات مسبقة عن عواقب نسبة المشاركة ونتائج التصويت. ولم يعقّب على اشتراط أمين عام اتحاد الشغل نور الدين الطبوبي مشاركة أكثر من نصف الناخبين المسجلين في الاستفتاء وتصويت أغلبيتهم بنعم للقبول بنتائج الاستفتاء وموالاة قيس سعيد. وإذا تمّ تمرير الاستفتاء بقوة الأمر الواقع، بالتزييف أو بأية آليات أخرى، فإنّ ذلك قد يغلق قوس عشرية الثورة، لكنه سيعمّق في المقابل أزمة الشرعية السياسية للحكم، بل قد ينهي قوس حكم قيس سعيد نفسه المتدثّر بالإرادة الشعبية، التي سيكشف ضعف الإقبال على الاستفتاء زيفها. ولن يفتح الدستور الجديد أيّة آفاق لمعالجات التحديات الاقتصادية والاجتماعية، التي ليست دستورية في جوهرها. وأنّ أوضاع البلاد ستكون أقرب إلى الانهيار الشامل. وعندها ستبدأ مرحلة انتقالية جديدة لإنقاذ مختلف، ستكون كلفته باهظة بلا شكّ، وطرقه أشقّ.
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25