صمود المقاتلين .. من صمود المثقفين
جريدة الموقف في جويلية 2006
ليس أخطر على مصير فلسطين ومستقبل العرب عامة من هذا التراجع الخطير في الوعي القومي العربي، بل هذا الاختراق الثقافي الأمريكي والصهيوني للوعي والخطاب العربيين رسميا وشعبيا، وخاصة على مستوى المثقفين، اعتبارا لمكانتهم في المجتمع ودورهم القيادي والتوجيهي.
إن الأزمات والمراحل الفارقة التي تجتازها أمتنا في مواجهة الإمبريالية والصهيونية، على غرار ما يحصل هذه المدة من تقتيل وحرب إبادة ضد الشعبين اللبناني والفلسطيني واستهداف للمقاومة الباسلة، بقدر ما تفرضه علينا من تجند ويقظة وتعبئة من أجل تقديم الدعم السياسي والمادي لأشقائنا وإسناد الخطوط الأولى في معركتنا المشتركة، فإن تلك الأولوية لا تحجب حاجتنا في مثل هذا الظرف إلى التحليل والحوار والقراءة العميقة للأحداث ودلالاتها حتى يضطلع كل واحد منا بدوره من موقعه. وأحسب أن وقوف النخب خاصة،على الأسباب العميقة التي تقف وراء هذا الضعف بل الانهيار في المواقف العربية الرسمية والشعبية في قضية الحال، من أوكد دروس هذه المواجهة المفتوحة.
تكفي المقارنة بين ثبات الإدارة الأمريكية والحكومات الغربية على موقف الانحياز بل الدعم المباشر لإسرائيل على مختلف الأصعدة وفي جميع المحافل وفي كل المواجهات، وبين تراجع التضامن العربي الرسمي والانخراط في معركة تحرير فلسطين إلى حد التآمر على المقاومة وتمرير مخططات العدو في تصفية القضية. تكفي تلك المقارنة لإدراك ثبات المرجعية الأمريكية والغربية عموما في توجيه بوصلة سياسة دعمهم للكيان الصهيوني الذي غرسوه في قلب الوطن العربي ولا يزالون يدركون النتائج الإستراتيجية والحصاد اليومي الذي يجنونه من تقاطع مصالحهم مع هذا الكيان على مختلف الأصعدة. وفي المقابل ضياع البوصلة العربية وتراجع الوعي بطبيعة المشروع الصهيوني، إلى حد حصر الصراع بينه وبين فصائل من المقاومة الإسلامية، والجنوح إلى سياسات قطرية قاصرة لا تلبث أن تتحول إلى جزء من المخطط الامبريالي الصهيوني.
فالأنظمة العربية التي فقدت كل شرعية داخلية في حكم شعوبها وتوسعت الهوة بينهما، وخبت فيها كل الأحلام الوطنية والقومية، وصار الاستمرار في الحكم من خلال أشخاصها و توريثه لنسلها همّها الأكبر، هذه الأنظمة للأسف ترفض كل مراجعة وإصلاح لنهجها وتصالح مع شعوبها، و تخيّر على ذلك الاستقواء على شعوبها بالدعم الخارجي واسترضاء القطب الأمريكي الأوحد، بالقبول بامتلاءاته و خدمة طفله المدلل إسرائيل، عبر الترويج لحلول الاستسلام والهرولة للتطبيع و التحمس لتصفية المقاومة تحت لافتة محاربة الإرهاب .
وفي صلة مباشرة بأحداث الساعة لا يخفى على أي متابع أن ما تريده الرسمية العربية من النخب المتواطئة معها، و تعمل من أجله هو تجريد حزب الله من سلاحه وإجلائه من الجنوب، فلا يبقى لبنان شوكة في خاصرة العدو الصهيوني و لا يفتح حدوده لأية مقاومة لبنانية أو غيرها ولا يملك أية قدرة عسكرية على حماية أراضيه، ويظل مرتعا للمخابرات الإسرائيلية وعملائها ومجالا لاختراقات قواته العسكرية الجوية والبحرية والبرية، كل ذلك يتم باسم استقرار لبنان حماية مصالحه وتفرّغه للإعمار والتنمية، ووضع حدّ للفاتورة الباهظة التي دفعها ثمنا لفلسطين! .وما يُراد للبنان في الحقيقة، ليس سوى صورة لما يراد لكل بلد عربي، قريب أو بعيد من خطّ المواجهة مع إسرائيل، في ظل الرؤية القُطرية المقيتة التي يسهل التقاطها من خلال التصريحات الرسمية والحوارات بين النخب بما في ذلك رموز من المعارضة في وسائل الإعلام .
فالأنظمة العربية لا تكتفي بتخليها عن واجبها القومي ودورها في تحرير أرضها المحتلة، و لا تُدرك، أو تبدو كذلك، المخاطر التي تتهدد أقطارها، بل لم تعهد تخجل من تآمرها الظاهر على المقاومة الشعبية، وإعطاء التغطية السياسية للعدوان الأمريكي والإسرائيلي، و ممارسة أقصى الضغوط حتى على الفلسطينيين أنفسهم من أجل تخليهم عن خيار المقاومة ومحاصرة فصائلها وفي
مقدمتها حركتي حماس الجهاد. و بالتوازي تمعن تلك الأنظمة في قمع أي نفس للمقاومة بين مواطنيها وتمنع بالحديد والنّار كل مظاهر التضامن الشعبي مع الأشقاء والاحتجاج على المجازر بحقّهم. و كم يبدو الأمر عجيبا حين تتخلى الأنظمة العربية عن واجباتها القومية ثم تنبري للتصدي للتدّخل الإيراني في لبنان وفلسطين والعراق، مع أن الطبيعة كما يقال تكره الفراغ، و مع أن إيران دولة إسلامية لا تخفى مصالحها، يمكن أن تكون بل يجب أن نعمل على أن تكون قوة لصالح الحق العربي والمصلحة العربية وليس العكس.
وإذا بدا الموقف الرسمي مألوفا ومفهوما، و إن كان محزنا وغير مقبول، ولا يجب التعاطي معه من موقع السلبية والتسليم بالأمر الواقع ، فان الخطر يتعاظم باستحضار الموقف الشعبي الذي لا يرتقي لمستوى التحديات، و نروم في تفسيره التذرع بقمع الأنظمة و قلّة الحيلة والوسيلة ونقنع بالعواطف الجياشة ونستسلم للانتظارية التي لا تغيّر من واقع الأمور شيئا. و كثيرا ما تكون عزاء للعاجزين مع أننا نردد الأثر ” لو تعلقت همّة المرء بما وراء العرش لناله”.
وإذا كان المجال لا يسع لتفكيك هذا الموقف السلبي والوقوف على جميع أسبابه و فحص آليات النهوض به، فإني أعدّ ذلك من أوكد واجبات النخب، وأكتفي بالتوقف هنا على مخاطر الاختراق الثقافي لوعينا و خطابنا الذي يفسر جزءا مما نحن فيه .
ففي ظل الخيبات المتتالية بدءا بنكسة 1967 وانتهاء بسقوط بغداد واحتلال العراق سنة 2003، و تراجع تأثيرات الأيديولوجيات اليسارية والقومية والإسلامية، اكتسحت الساحة السياسية والثقافية والإعلامية مفاهيم ومُفردات مثال السلام الاعتدال والتسامح والاستقرار والإرهاب وتقدير موازين القوى والواقعية والعولمة ونهاية الأيديولوجيات والنضال المدني والمجتمع الدولي… و كلها كلمات حق يراد بها باطل. وغابت في المقابل مصطلحات ومفردات أخرى، مثال المشروع القومي والعدو والجهاد والتحير والوحدة والاستقلال الوطني ومقاومة الامبريالية والثقافة الوطنية والأممية وطبيعة المعركة والسرطان الصهيوني… وهي جهاز مفاهيمي لئن احتاج إلى المراجعة والتطوير فانه لا تُعدم فوائده.
وكان من نتائج ” الثقافة الجديدة ” الخلط في المفاهيم و تشويه الوعي أو فقدانه و ضياع البوصلة في اتجاهات الرأي العام. فتغذى الإحباط و دبّ الوهن وضعفت الإرادة وضاعت الأهداف الإستراتيجية وغلبت الفردية وجنح الناس إلى الخلاص الفردي وضمُر الشعور القومي والإسلامي وانحسر الاهتمام بالشأن العام وانسدّت آفاقه وكانت الآلة الإعلامية المعادية تشتغل في الأثناء عبر بثّ الفرقة والطائفية وتغذية الاحتقان والتشكيك في الذّات و شلّ الإرادة و تعميق الفجوات و تشجيع الاستقطاب و التطرف والنزعات الاستئصالية… فاتسعت الهوّة بين الحكّام والمحكومين، و نجح العدو في ضرب بعضنا ببعض، وصار القبول بالتطبيع مع الكيان الصهيوني أسهل من التقريب بين الفر قاء الإيديولوجيين والسياسيين من الإسلاميين وخصومهم خاصة. فلا عجب بعد ذلك أن تنتصر القطرية ويضيع الحلم القومي وتبتعد آمالنا في الوحدة في مرحلة تكثفت فيها التكتلات بأنواعها وضاعت في الأثناء فلسطين وأطلّ الاستعمار برأسه من جديد و احتلت أراض عربية أخرى وعجز الموقف الرّسمي والشعبي عن إيقاف الانحدار.
هذه اللوحة القاتمة، ليست سوى جانب من الصورة. فنحن أمة كما قال الشاعر “لو جهنّم صبت على رأسها ..واقفة”. ففي ظل موازين القوى المختلة، وبإمكانياتنا المتواضعة استطعنا أن نحقق انجازات لا يُستهان بها، فنجحت حركات التحرير الوطنية في تحقيق الاستقلال وأجبرت الاستعمار على تغيير سياساته، و أسهم المجاهدون العرب في طرد الإتحاد السوفيتي من أفغانستان، ونجحت المقاومة في دحر إسرائيل عن جنوب لبنان وتحريره، وتوجه المقاومة في العراق الضربات الموجعة لأمريكا وحلفائها بما سيضطرّهم للخروج عاجلا أو آجلا، وتقف المقاومة الفلسطينية الباسلة في وجه آلة الدّمار الصهيونية التي فشلت في إخماد صوتها. وعلى الواجهة الأخرى فإن الفكر العربي المعاصر راكم منذ هزيمة 67 من الإنتاج والنقد وحقق من التقارب بين مختلف توجهاته ووضع من المشاريع ما يجعلنا نتطلع إلى مستقبل أفضل. فما ينجزه المقاتلون والمفكرون يجعلنا نتفاءل و لا نتشاءم. فهل تنجح نخب هذه المرحلة في مراجعة المشهد العربي والاعتماد على الإنجازات المحققة، والاستفادة من الظرفية الدولية السانحة، الآخذة في التغير في غير صالح القطب الأمريكي، لتصوّب وعيها و تتصدى للاختراق الإعلامي الأمريكي والصهيوني وتحدّد أولوياتها، وتجمع كلمتها وصفوفها على برنامج عملي مشترك وترعى الاختلاف النظري و التعايش الديمقراطي بينها، وتستنهض الهمم وترقى لمواجهة التحديات؟ فصمود المقاتلين من صمود المثقفين .