حوار اقتصادي واجتماعي في رحاب البرلمان بمناسبة مناقشة ميزانية 2021
أكّد رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي على أنّ “المؤسسة النيابية مركز للحوارات المجتمعية وفضاء رحب للتداول في الشأن العام وتدبيره”. كان ذلك بمناسبة افتتاحه للندوة التي نظّمتها لجنة المالية والتخطيط والتنمية يوم الإثنين 09 نوفمبر 2020 للتباحث في “الحلول الممكنة لتجاوز الصعوبات المالية التي يطرحها مشروع ميزانية الدولة لسنة 2021” وشارك فيها عدد هام من الخبراء والوزراء السابقين ممّن تحمّلوا حقائب في الاقتصاد والمالية. وفي كلمته الترحيبية بالضيوف أشار رئيس اللجنة المالية هيكل المكي إلى تنوّع المدعوّيين، بما يجعل مجلس نواب الشعب يباشر فعليّا حوارا اقتصاديا واجتماعيا. فمناقشة الميزانية هذا العام تكتسي صبغة خصوصية لارتباطها بتفاقم اختلال المالية العمومية وارتفاع حادّ للعجز بعد الآثار الاقتصادية السلبية لجائحة كوفيد 19، ولأنّها تتزامن مع ذكرى مرور عشر سنوات على ثورة الحرية والكرامة وسط مزاج شعبي سلبي واحتقان اجتماعي، تعبيرا عن عدم الرضى عن الحصائل. فما هي أهمّ عناوين ميزانية 2021 المثيرة للجدال؟ وهل يشكّل التوافق على تعديل توازناتها والمصادقة على تمريرها بالبرلمان مؤشّرا على التفاؤل بتجاوز بلادنا لشبح الأزمة المخيّم على أجوائها؟ وما طبيعة الحوار الوطني المتأكّد الذي يفتح عليه نقاش ميزانية 2021 وما هي حظوظ نجاحه؟
يُقدَّر حجم ميزانية الدولة لسنة 2021 ب52617 مليون دينار، وهي ميزانية توسّعية تكاد تضاعف ثلاث مرات ميزانية سنة 2010، وتمثّل حوالي نصف الناتج المحلي الإجمالي المقدّر ب112339 م د. يُرصد من الميزانية 20118 م د بعنوان نفقات أجور، بما يعادل 16,6% من الناتج الوطني. فقد تضاعفت كتلة الأجور ثلاث مرات بعد الثورة وتجاوزت حجم ميزانية الدولة بأكملها سنة 2010، وفاقت نسبتها بكثير المعدّلات المعتمدة في سائر دول العالم والتي لا تتجاوز 10 % من الناتج الوطني. وتقدّر خدمة الدين العمومي لسنة 2021 بمبلغ 15776 م د أكثر من نصفه خارجي. وهكذا تفوق كتلة الأجور وخدمة الدين مداخيل الميزانية المقدرة ب33009 م د. وهذا ما يستدعي تعبئة موارد اقتراض لتمويل ميزانية 2021 بمبلغ 19608 م د، منها قرض داخلي ب2900 م د والبقية اقتراض خارجي. وبالمحصّلة يُنتظر أن يبلغ حجم الدين العمومي 92.7 % من الناتج المحلي الإجمالي.
وبسبب هذه الأرقام المفزعة والتوازنات المختلة يحذّر البعض من سيناريو إعلان إفلاس الدولة، وتحصل لأوّل مرة خلافات علنية بين الحكومة والبنك المركزي وتتعدّد التصريحات المتشائمة بوسائل الإعلام، بما أضرّ بمصالح تونس المالية الخارجية وزاد في الاحتقان الاجتماعي الداخلي. واعتبرت لجنة المالية بالبرلمان التي باشرت نقاش ميزانية 2021 أنّ نسبة النمو المقدرة ب4% من حكومة هشام مشيشي تبدو غير واقعية وبُنيت على فرضيات مبالغ فيها في التفاؤل إلى حدّ المغالطة، لا سيما في توقّع نهاية سريعة لكوفيد 19 واستعادة الاقتصاد العالمي لنسقه والتعافي التدريجي لاقتصادنا وقطاعاته الحيوية وعودة نسق الإنتاج من المحروقات والفسفاط وتطور الموارد الذاتية للدولة وعدم ارتفاع سعر برميل النفط فوق 45 دولار ومحافظة الدينار على سعر صرفه الحالي. ويكفي للشكّ في هذا التفاؤل، التذكير بأنّ تقديرات نسبة النمو منذ 2014 لم تحقق الحكومات المتعاقبة سوى أقلّ من نصفها في كل عام.
احتضنت قاعة راضية الحداد بمجلس نواب الشعب يوم الإثنين المنقضي بدعوة من لجنة المالية كلاّ من الوزراء السابقين والخبراء فاضل عبد الكافي وتوفيق الراجحي ورضا شلغوم وحسين الديماسي وتوفيق بكار والحبيب كراولي وعبد الباسط سماري، الذين تداولوا الكلمة وعبّروا عن مقارباتهم للوضع الاقتصادي ماضيا وحاضرا ومستقبلا، واقترحوا حلولا عملية لتوازن المالية العمومية لسنة 2020 أو لسنة 2021، سواء بالضغط على النفقات أو تأجيل بعضها أو تنويع الموارد أو خوصصة بعض المؤسسات أو إحداث آليات جديدة أو تغيير قوانين أو غيرها من الحلول. وشدّد جميعهم على الكلفة الباهظة لتأخّر تنفيذ الإصلاحات المتأكدة والمقرّرة في أغلبها، خاصة ما يتصل بمراجعة سياسة الدعم للمحروقات والمواد الغذائية وحوكمة الصناديق الاجتماعية والشركات العمومية. وأكّدوا على الحاجة إلى حوار اقتصادي عميق للخروج التدريجي والناجح من الأزمة المتراكمة منذ سنوات، فلم تعد تجدي سياسة الترقيع دون رؤية للمستقبل أو الأيادي المرتعشة وتأجيل القرارات الجريئة ولو كانت موجعة. ومن جهتهم أكّد من تناولوا الكلمة من أعضاء لجنة المالية أو من بقية النواب بعض ما تناوله الخبراء وأثنوا على مداخلاتهم، وخالفوهم في مسائل وأضافوا عناصر ومقترحات أخرى. ويظلّ الانطباع في هذه الندوة الهامة وغيرها، ملاحظة تكرار الخطابات الاقتصادية منذ سنوات، وحتى قبل الثورة، خاصة ما يتعلق بالإصلاحات، دون قدرة على تحسين الأوضاع.
تتكثّف الللقاءات خلال الفترة الأخيرة في باردو والقصبة وقرطاج على خلفية معالجة ثغرات ميزانية الدولة وتعبئة الموارد الضرورية لذلك، والأرجح أن تتمّ التعديلات المتّفق عليها ويُصادق على تحيين ميزانية 2020 وعلى ميزانية وقانون المالية لسنة 2021، كما جرت الأمور في السنوات السابقة. فالحلول “المحاسباتية” موجودة، ولا مصلحة البتّة في سيناريو رفض المصادقة، مهما كانت الاختلافات مع الحكومة أو بين الأطراف الحزبية أو المنظمات الاجتماعية، ناهيك أن المصادقة المطلوبة قانونيا يكفيها أغلبية النواب الحاضرين التي لا تقل عن الثلث (73 صوتا). ولكن تمرير الميزانية لن ينهي الأزمة الاقتصادية العميقة التي صنعتها عوامل عديدة ومنها الإدارة السياسية الخاطئة لعشرية الثورة، بما فيها من مناكفات أيديولوجية وسياسية وعدم استقرار حكومي وابتزاز للدولة وضعف إنفاذ القوانين وخلط في الأولويات وتردّد في الإصلاحات وغيرها. وهذا ما يستدعي حوارا شاملا لتصحيح المسار، وليس الاقتصاد فقط.
حين يتكلّم السياسيون أو الخبراء، لا يختلفون غالبا في التشخيص والدعوة إلى الحوار والتنبيه إلى التعقيدات والمصاعب والمخاطر، وبعث رسائل التفاؤل بأنّ التدارك لا يزال ممكنا، وهذا هام ومفيد ومطمئن أيضا. لكن حين تحضر الحسابات الضيّقة الحزبية أو الفئوية، ويصبح الموقف محكوما بالمناكفات الأيديولوجية أو الأجندات غير الوطنية، وتغيب مشاغل الناس وتطلعاتهم التي يزعم جميع الفاعلين الحرص عليها، عندها يصبح مكان الحوار ومن يشرف عليه أهمّ من الحوار في حدّ ذاته والمخرجات المنتظرة منه، ونعود إلى تجاذبات مراكز السلطة في قرطاج وباردو والقصبة، واصطفافات الفاعلين على خلفية ذلك، فتتعطل المسارات وتضيع الفرص.
كثيرا ما نتفاخر بمنجزنا الديمقراطي الاستثنائي وسط محيط إقليمي مضطرب، وهذا استحقاق لن يحجبه المستثمرون في تبخيس الثورة وتيئيس الناس، مهما تعدّدت مناوراتهم وتقوّت أذرعتهم. ولكن علينا أن نحذر بعد عشر سنوات أن ينفذ صبر الناس، فيعصف التعثّر الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي بالمنجز السياسي. ولنتذكّر دوما كم مرّة كان الجدال حول الميزانية السنوية للدولة، قادحا لاضطرابات اجتماعية وسياسية خطيرة عرفتها بلادنا. وليخفض بعضنا لبعض جناح المواطنة لنتنادى إلى حوار قد تتعدّد أماكنه، لكن المهم أن تتوحّد بوصلته وأهدافه. فإذا عمد البعض إلى محاولة خرق سفينة الوطن التي نركبها جميعا، فليأخذ البقية على أيديهم حتى ينجوا وننجو جميعا.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 181، تونس في 12 نوفمبر 2020
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25