توحيد موقف المعارضة وخطّتها وجهودها: مبادرة في لمّ الشمل الوطني
ا
جرت مياه كثيرة في نهر المشهد السياسي التونسي ما بين مساء 25 جويلية 2021 وعشية 25 جويلية 2022. وقد ساعدت الأخطاء الفادحة في مخاصمة سلطة الانقلاب جميع الأطراف في آن واحد، والخطوات السريعة في تكريس الحكم الفردي المطلق، والأولويات السياسية للحكم الجديد على حساب الأولويات الاقتصادية والاجتماعية لعموم الشعب، ساعدت جميعها وغيرها على تبيّن زيف مزاعم “تصحيح المسار”. ومع مرور الأشهر، كانت رقعة المؤيدين لمسار 25 جويلية في نقصان ورقعة الرافضين له في تزايد. وإذ يشتدّ الخناق حول رقبة الانقلاب وتزداد عزلته الداخلية والخارجية عشية غلقه السنة، واستعداداته لاستفتاء صوري على مشروع دستور “جمهورية جديدة” يُجهز نهائيا على عشرية الثورة، وفي ظلّ لامبالاة الأغلبية الشعبية بالصراع السياسي في عناويته المختلفة، ورفضها الانخراط الفعلي في مقاومة الانقلاب أو تأييده، تبقى الأسئلة المحيّرة حول أسباب عدم اجتماع المعارضة على خطّة موحّدة وجهد مشترك لإسقاط الانقلاب، رغم التقائها الموضوعي في موقف الرفض؟ وهل من سبيل لمبادرة على طريق تحقيق هذه الخطوة في لم الشمل الوطني، باعتبارها شرطا لغلق قوس 25 جويلية واستئناف المسار الديمقراطي المؤسساتي المعطّل وتصحيحه في آن؟
فمع تواصل المواقف السياسية لجبهة الخلاص الوطني الرافضة لانقلاب 25 جويلية والمتصدّية لانتهاكاته المختلفة، واستمرار تحركاتها الميدانية اللافتة وآخرها المسيرة الضخمة من ساحة الجمهورية إلى شارع الحبيب بورقيبة يوم الأحد الماضي 19 جوان 2021، جاء تصريح رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في حواره على قناة الجزيرة مساء الإثتين 20 جوان 2021 بأنّ “النهضة لا تدعو إلى عودتها إلى السلطة بل إلى استعادة الديمقراطية في تونس” ليعزّز القناعة الواسعة لدى مكوّنات جبهة الخلاص وحرصها من خلال تصريحات زعيمها أحمد نجيب الشابي خاصة، على أنّه لا عودة إلى وضع ما قبل 25 بعناوين أزمته المركّبة والمتراكمة، وأنّ هدف الجبهة هو الإسهام في الإنقاذ المستعجل لأوضاع تونس واستئناف مسارها الديمقراطي وتصحيحة بصيغ تشاركية لا انقلابية، عبر حوار وطني جامع لا يقصي أحدا.
كما كشف منعرج التباعد بين منظمة الشغّالين وسلطة قرطاج، ورفض الاتحاد العام التونسي للشغل للمسار الأحادي لقيس سعيد ومشروعه الشخصي ومقاطعته مؤخرا للحوار الصوري بقصر الضيافة، وتصعيد الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي لخطابه في نقد المسار السياسي الحالي وتبرّمه من تداعياته السلبية القادمة على أوضاع البلاد، ليكشف تباين أهمّ المنظمات الاجتماعية وأكثرها تأثيرا، مع النزعة الفردية في إدارة مسار 25 جويلية، الذي سبق أن أيّده الاتحاد في بدايته، رغبة في تجاوز أزمة ما قبله. وبصرف النظر عن اختلافات بينية جزئية، يبدو موقف الأحزاب الخمسة المنخرطة في الحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء غير بعيد عن موقف الاتحاد العام التونسي للشغل، الحريصة على الاقتراب منه والتنسيق معه. ولا يمكن التعاطي مع بقية مكونات المشهد الديمقراطي من أحزاب سياسية وجمعيات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية، التي تعرب عن مواقفها الرافضة لمسار ما بعد 25 جويلية تباعا من خلال بيانات وعرائض، إلا ضمن هذا السياق من الالتقاء الموضوعي مع المواقف السابقة التي تمّت الإشارة إليها.
فخلال سنة من حكم قيس سعيد الفردي والمطلق حقيقة لا مجازا، ورفضه الحوار مع الجميع وعجزه عن حسن تسيير شؤون البلاد وتعطيله دواليب الدولة والمجتمع، تقاربت أطياف المعارضة لهذا النهج في الحكم وتعزّز صفّها. وحان وقت انتقالها من الالتقاء الموضوعي في مواقف الرفض، إلى الالتقاء الفعلي في الخطّة البديلة وتوحيد الجهود لتسريع غلق قوس المرحلة الاستثنائية. فبعيدا عن المشاحة في المصطلحات، وتقديما للأهم على المهمّ، وتجاوزا للمناكفات الأيديولوجية والسياسية التي لا يتحمّلها الظرف والتلاوم والمزايدة في تحميل المسؤولية عن الماضي، واستحضارا للخطر المشترك في الحاضر والمصلحة الوطنية الجامعة في المستقبل، نقدّر أنّ ساعة الحقيقة دقّت وحان وقت تواضع الجميع للجميع والتنازل المشترك من أجل كلمة سواء بين المعارضة الديمقراطية ولمّ شمل الصفّ الوطني .
فلا نبالغ إذا خلصنا إلى أنّ الموقف الجامع اليوم كما أسلفتا، هو رفض العودة إلى سلبيات ما قبل 25 جويلية، ورفض المسار الأحادي والمشروع الشخصي لما بعده، والرغبة في استئناف المسار الديمقراطي المؤسساتي عبر حوار وطني إدماجي جامع، لا يستني طرفا ولا يحظر مواضيع في النقاش، ويعطي الأولوية للإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي، ويضع ترتيبات لمرحلة انتقالية جديدة تعتمد المرونة ولا تشترط حلولا مُقولبة، وتؤهّل البلاد سياسيا وقانونيا لانتخابات مبكرة رئاسية وتشريعية تعيد الكلمة للشعب صاحب السيادة الأصلية، ليمنحها لمن تختاره الأغلبية عبر انتخابات حرة وتعدّدية وشفافة. إذا كان ذلك واضحا، فلا مشاحة أن نسميه “خيارا ثالثا” أو غيرها من التسميات، والمهم أن نسارع بمبادرات في التقارب وجمع الكلمة ولمّ الشمل قبل فوات الأوان.
ولمّا كان الاتحاد العام التونسي للشغل منظمة وطنية عريقة كما يصرّح الجميع، وقوّة وازنة كما تدلّ على ذلك الوقائع، وصاحب خبرة في الحوار وجمع الكلمة، وخيمة غير حزبية يستظل تحتها الفرقاء، ومحلّ تقدير داخلي وخارجي، فإنّه يظلّ الطرف الأكثر تأهّلا لهذا الدور التاريخي الحاسم في لمّ الصفّ الوطني وإنجاز الحوار الذي تأخر كثيرا عن موعده وترتيب البيت الداخلي لتأهيله للإنقاذ المستوجب ومواجهة أخطار إقليمية ودولية متعاظمة. وما ذلك على اتحاد حشاد بعزيز. ومن قبل قال شاعرنا الفذ أبو الطيب المتنبي:
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ
وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها
وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 261 تونس في 23 جوان 2022
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25