بعد الأخطاء الفادحة.. كُفّوا عن العبث السياسي
جريدة الرأي العام، العدد 42، تونس في 01 فيفري 2018
حدّدت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فترة تقديم الترشّحات لبلديات ماي 2018 من 15 إلى 22 فيفري. وارتفعت حمّى تشكيل القائمات خاصّة داخل الأحزاب، ليكتشف المعنيّون تعقيدات القانون الانتخابي، وما وضعه نوّاب الشعب في سياق المناكفات والمزايدات، من صعوبات في تشكيل القائمات لا تتحمّلها المرحلة وقد تضعف فرص نجاح هذا الاستحقاق الوطني الهام. وليست هذه أوّل مسألة نكتشف مأزقها بعد فوات الأوان، فقد تعدّدت الأخطاء الفادحة في المرحلة التأسيسية وبعد انتخابات 2014، ولم يعد مسموحا اليوم السكوت عن إرباك المسار والمسّ من الاستقرار وتهديد الانتخابات قبل أقلّ من 100 يوم من تاريخ تنظيمها، على غرار خطابات التأزيم ودعوات تغيير الحكومة أو إجراء انتخابات تشريعية مبكرة أو العودة إلى إيقاف الإنتاج وتهديد الاقتصاد الوطني بعد فشل إرباك الوضع الأمني.
صُداع تشكيل القائمات وحرج حجم مشاركة البعض
ازداد عدد البلديّات ليبلغ 350 بلديّة بمقتضى الفصل 131 من الدستور الذي اشترط أن تغطّي أصناف الجماعات المحلية كامل تراب الجمهورية، ولم يصحب ذلك اتخاذ إجراءات لدعم البلديات المستحدثة. ويقدّر عدد المستشارين للمجالس التي سيتمّ انتخابها بما يزيد عن 7000 مستشار. ويتراوح عدد المترشّحين بالقائمة الواحدة ما بين 12 في الحدّ الأدنى و60 على الأقصى بحسب عدد السكان بالبلدية. وينصّ القانون الانتخابي على ضرورة التقدّم بقائمة تكميلية لا يقلّ عددها عن ثلاثة ولا يزيد عن القائمة الأصليّة. بما يرفع عدد المترشّحين المطلوبين فوق السبعة آلاف. وينصّ القانون على “مبدأ التناصف بين النساء والرجال وقاعدة التناوب بينهم داخل القائمة” ويشترط على القائمات الحزبية والائتلافية التي تترشّح في أكثر من دائرة “التناصف بين النساء والرجال في رئاسة القائمات”. و”يتعيّن على كل قائمة مترشّحة أن تضمّ من بين الثلاثة الأوائل فيها مترشّحة أو مترشّحا لا يزيد سنّه عن خمس وثلاثين سنة” و”أن تضمّ من بين كل ستّة مترشّحين تباعا في بقية القائمة، مترشّحة أو مترشّحا لا يزيد سنّه عن خمس وثلاثين سنة” وتسقط القائمة التي لا تحترم هذه الشروط، أما تلك التي لا تضمّ “من بين العشرة الأوائل مترشّحة أو مترشّحا ذا إعاقة جسدية وحاملا لبطاقة إعاقة” فتُحرم من المنحة العمومية. والتي لا تُصرف إلا للقائمة المتحصّلة على أكثر من 3% وبعد الإعلان عن النتائج النهائية. يضاف إلى ذلك أن يكون المترشّح مسجّلا بالدائرة المعنية، خلافا للتشريعية، وأن يتقدّم بما يفيد استخلاص الضرائب على الدخل السنوي وإبراء الذمة من الأداءات البلدية أو الجهوية، كما لا يمكن أن تربط بين أكثر من شخصين بالقائمة قرابة أصول أو فروع أو أخوّة. وشروط أخرى أقلّ أهميّة.
وهذه شروط عسيرة في المشهد السياسي التونسي الحالي، بشهادة هيئة الانتخابات. فالأغلبية الساحقة من الأحزاب، باستثناء النهضة والنداء إلى حدّ ما، والتي يتجاوز عددها الرسمي المائتين تبدو عاجزة تماما عن الإيفاء بمتطلبات المشاركة التنافسية الدنيا في هذه البلديات. ولنا أن نتصوّر حدّة الصّداع الذي يخلقه تشكيل القائمات عشية تقديمها للهيئة من جهة، والتفكير في حجم مشاركة ونصيب أغلب الأحزاب من آلاف المستشارين؟ وكيف سيكون وضعها في الخارطة الحزبية بعد إعلان النتائج البلدية، التي ستكون حاسمة فيما يليها من انتخابات تشريعية ورئاسية في السنة القادمة؟
أخطاء فادحة ومسار مهدّد
يذكّرنا مأزق البلديات المشار إليه، والذي يحتاج إلى التوقّف عنده، بأخطاء ومآزق أخرى، لا تخفى تداعياتها السلبية على المشهد. نذكر على سبيل المثال لا الحسر، مسار العدالة الانتقالية ومصير هيئة حقيقة والكرامة التي تمّ إثقال مهمتها الحيوية في تحقيق المصالحة الوطنية، بإغراقها في التحقيق في فترة طويلة من الزمن وفي قضايا تنوء بحملها، وهاهي توشك أن تنتهي مهامها زمنيا بعد أربع سنوات مُنحت لها، وسط مخاوف من ذهاب أعمالها سُدى، واستمرار محنة الضحايا ومزيد تعقيد مسار المصالحة. ونذكر الهيئات الدستورية للرقابة والتعديل التي جاء بها الباب السادس من الدستور وكانت إضافة نوعية في النظام السياسي، والتي يتعثر وضع قانون لها ولا يتمّ انتخاب أعضائها بعد أربع سنوات من إقرار الدستور. بل إنّ الدستور نفسه الذي حضرت المشاحنات والشهوات والمزايدات في تحبير فصوله، يبدو في فجوة مع الواقع ويحمّله البعض مسؤولية الأزمة السياسية ويطالبون بتعديله، حتّى قبل أن تستكمل مؤسساته ويتمّ تجريبه. كما أنّ وضع الدستور وخوض تنافس عن الحكم، قد تمّا دون تقييم مشترك لخيارات المرحلة السابقة للثورة وأخطائها ومعالم الخيارات الجديدة للمشروع الوطني الجامع التي سيتم التنافس على تفاصيل تحقيقه. وها أنّ الأساليب الخاطئة في المعارضة والاحتجاجات العشوائية والتطاول على المسؤولين ومخالفة القانون تتحول إلى مكاسب وتقاليد، ويكتوي بنارها اليوم من ساهم في إرسائها بالأمس، بعد أن تغير المشهد السياسي لانتخابات 2011 والذي فصّلت كثير من الأمور على مقاسه، وكأنّه قدر لا فكاك منه.
كُفّوا عن العبث السياسي
لا يتّسع المجال لتعداد كافّة أخطاء المسار التأسيسي وما تلاه، والتي نجني آثارها السلبية اليوم، وما ذكرناه نراه كافيا للتنبيه إلى مخاطر الاستمرار في ارتكاب أخطاء مماثلة، نعدّ حصولها ضربا من العبث السياسي الذي لا يحقّ لعقلاء هذا البلد وعموم شعبه أن يسمحوا به. فما ذا يعني العود إلى توقيف إنتاج الفسفاط كلّيا خلال الأيام الأخيرة؟ وما القصد من العمل على إرباك الحكومة بالدعوة إلى استبدالها بحكومة “مصلحة وطنية” أو “حكومة كفاءات مستقلة” أو حتى بحكومة “ثنائية بين النهضة والنداء” أساسا، وفق نتائج انتخابات 2014، أو غيرها من الصيغ والتسميات؟ وأيّة أجندة لمن يستثمرون في المزاج السلبي العام ويوظفون الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب، لتأجيج المشاعر ضدّ الحكم ويشجعون على الاحتجاجات المنفلتة؟ وما معقولية الدعوة إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها مقرّرة دستوريا في السنة القادمة، ونحن نتهيّأ لانتخابات محلية متأكدة في السنة الحالية؟ وأيّة فائدة ترجى من استفزاز المشاعر الدينية واستهداف نمط عيش التونسيين، عبر استغلال مؤسسات الدولة لفرض مبادرات لتغيير تشريعات، تبدو محكومة بشهوات فردية ودوافع أيديولوجية، وترف فكري يقفز على واقع التونسيات والتونسيين وأولوياتهم ولا يرتقي بأوضاعهم؟
نحن نركب سفينة واحدة، فإذا امتدّت أيادي البعض منّا لخرقها باسم الحريات الفردية، ولم يكترث الآخرون، غرقوا وغرقنا جميعا، وإذا أخذوا على أياديهم نجوا ونجونا جميعا. والكيّس من اتّعظ بأخطائه. وليس عيبا أن نخطئ ولكن العيب أن نبني على الأخطاء أمجادا.
محمد القوماني
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/27072487_1812260735464369_1210018983195857445_n.jpg?oh=316723f7805218f31a3de6b11310f1fa&oe=5AD8B999