المشهد الحزبي في بلديات ماي2018 بوصلة الأحزاب عشية تقديم القائمات

تبدأ بعد أسبوع المرحلة الانتخابية لبلديات ماي 2018 بتقديم قائمات المترشّحين من 15 إلى 22 فيفري. وتفيد المعطيات الأوّلية إلى أنّ حزبين وحيدين وهما النهضة ونداء تونس يعملان على التقدّم في مختلف الدوائر (350 دائرة) مع بعض الصعوبات، أما بقية الأحزاب والجبهات فلن تتقدّم إلاّ في بعض العشرات من الدوائر. ولا يعود هذا المشهد المنتظر إلى تعقيدات القانون الانتخابي وشروط الترشّح التي سبق أن تناولتاها، وما تسببه من صداع في البحث عن مترشّحين أو ترتيبهم، بل يعود المشهد إلى سبب بنيوي يتعلّق بضعف المشهد الحزبي نفسه.

فقد بات واضحا بعد سبع سنوات من الثورة وإطلاق حرية التنظّم، أنّ بلادنا لم تشهد تشكّل أحزاب سياسية وازنة وذات تمثيلية اجتماعية واضحة، رغم عدد الأحزاب الذي تعدّى المائتين. فباستثناء النهضة والنداء، مع بعض التحفّظ، لا يصحّ الحديث عن تشكيلات حزبية شعبية قادرة على المنافسة الانتخابية. فحزب حركة النهضة يتغذى من رصيد أكثر من أربعة عقود من النضال السرّي، ويحاول التأقلم مع الوضع الجديد الذي أتاحته الثورة ومقتضيات المشاركة العلنية والشفافة في العملية السياسية وفي الحكم، ويجتهد في تطوير نفسه فكريا وسياسيا وهيكليا، ليعيد بناءه الحزبي وضطلع بدوره الجديد، ولا تخفى صعوبات هذا التحوّل وتداعياته. وحزب حركة نداء تونس الذي تشكّل في سياق مخصوص لخلق التوازن المفقود مع النهضة بعد فوزها في انتخابات 2011، استفاد من رصيد حزب التجمع الدستوري المنحل، وتغذى من عقود من احتكاره للساحة السياسية وارتباطه بالدولة، وضمّ المناوئين لحكم النهضة من روافد مختلفة نقابية ويسارية وليبرالية ونسوية، واستطاع أن يكسب الانتخابات في 2014 ويتقدم على حركة النهضة، قبل أن يعقد مؤتمره التأسيسي، وليدخل لاحقا في أزمة داخلية حادة ويشهد انشقاقات مدوّية، ولا يزال يفكّ ألغاما ويجتهد في ضمان مستقبله. أمّا بقية الأحزاب، سواء التي يعود وجودها القانوني أو السرّي، إلى ما قبل الثورة، أو تلك التي نشأت في سياق الانتقال الديمقراطي، فلا يخفى ما تعانيه من ضعف مادي وانحسار جماهيري، وانقسامات وصراعات على الزعامة وصعوبات الالتقاء والتوحّد والاندماج. ولا نبالغ إذا قلنا أن قاعدتها الحزبية مجتمعة لا تُسعفها لتشكيل قائمات انتخابية في البلدية خاصة، وحتي التشريعية بالنسبة لأغلبها، فضلا على أن تكون لها قاعدة انتخابية ذات بال.

ليست مشكلة المشهد السياسي ببلادنا، في وجود الأحزاب وتنافسها وحتى فيما بينها من تجاذبات غير مبرّرة وغير مفيدة، على غرار ما يتم الترويج إليه في الغالب، بل المشكلة في ضعف الأحزاب أو لنقل في عدم تشكّل مشهد حزبي متعدّد ومتوازن ومتنافس، وهذا أحد شروط تأمين الديمقراطية. فحين يتمّ استبعاد المتحزّبين من المواقع لفائدة المستقلّين، بما في ذلك في تشكيل الحكومات أحيانا، فإنّ ذلك لا يشجّع على الانخراط في الأحزاب ولا يخدم تطوير المشهد الحزبي. وحين يستمرّ بعد سبع سنوات العمل بمرسوم لتنظيم الأحزاب وُضع على عجل بعد الثورة، ولا توجد إرادة واضحة لدى الحكومات المتعاقبة في التنمية السياسية المفقودة على مدى عقود، وفي وضع قانون يساعد على تطوير المشهد الحزبي ويضبط تمويل الأحزاب، ويضفي عليها الشفافية والنجاعة، نفهم أحد أسباب ضعف الأحزاب. وحين لا تعي قيادات الأحزاب متطلّبات الوضع الجديد، ولا تميّز بين النضال السياسي ضدّ الدكتاتورية، والطابع الاحتجاجي لعملها قبل الثورة، وبين المشاركة السياسية في الوضع الديمقراطي والتنافس على برامج لخدمة المشروع الوطني الجامع في هذه المرحلة، فإنها تضيع البوصلة ولا تساعد بدورها على تطوير المشهد الحزبي. وحين تظلّ الأحزاب حبيسة الأيديولجيات “المُفوّتة” كما وصفها الراحل ياسين الحافظ منذ عقود، ولا تنجح في التأقلم والانفتاح على الأجيال الجديدة، ولا تطوّر وسائل اتصالها ولا أسليب خطابها ولا مضامينه، فإنّه من الطبيعي أن تشيخ تلك الأحزاب ويفتر عزمها، وتصير على هامش الأحداث وليست في قلبها كما يُفترض.

ربّما يفسّر لنا ما سبق من أسباب ضعف المشهد الحزبي وما تشهده ساحتنا السياسية من مفارقات، على غرار خطابات الضدّية ومهاجمة الطرف القويّ والعمل على إضعافه، بدل السعي إلى تقوية الذات ومنافسته. فلا يخفى على المتابع أنّ حركة النهضة تظلّ الحاضر الغائب في مختلف المنابر والخطابات، حتى أضحى التهجّم عليها والتحامل والتحريض أحيانا، طريقا إلى الشهرة والبروز الإعلامي. فالسيدة النائبة سامية عبّو تحمّلها مسؤولية التحريض عليها حتى تصبح هدفا للإرهابيين. والجبهة الشعبية لا تنفك تتهمها بالضلوع في الاغتيالات السياسية مهما كانت المسارات القضائية، وها هو السيد محسن مرزوق أمين عام حزب المشروع، يخطو خطوة أخرى في استهداف النهضة، فيضيف إلى اتهاماته المستمرة لها وتحميلها كل حصيلة “الفشل” ومهاجمة زعيمها، استهداف المترشّحين المستقلين على قائماتها البلدية، فيتهدّدهم ويحذّرهم ويتوعدّهم في خطاب غير مسبوق. ولا فائدة في مزيد الأمثلة، إذ القصد من ذلك التنبيه إلى مخاطر تشنّج الخطاب السياسي وارتفاع نبرته مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي. فالمنافسة الانتخابية مهما اشتدّت، لا يجوز أن تنجرّ إلى التعادي والتنافي. والمجالس البلدية المرتقبة ستكون تعددية بالضرورة، بمقتضى القانون الانتخابي، والمتنافسون اليوم سيكونون مستشاريين بلديين يعملون بالشراكة غدا. ونجاح الانتخابات البلدية في 2018، نريدها تمهيدا وتشجيعا على نجاح أفضل في الانتخابات التشريعية والرئاسية في 2019.

قدرنا وخيارنا في تونس أن نتفاءل رغم كل الصعوبات والمخاطر. فقد ظللنا نتساءل متشائلين إلى آخر اللحظات في استحقاقات سابقة وكان خيرا والحمد لله تعالى. هل تنجح الثورة ونجري انتخابات المجلس الوطني التأسيسي؟ فكان ما كان. وهل نقرّ دستورا جديدا ونجري الانتخابات مجدّدا..وكان ما كان. وهل؟ وهل ؟ …واليوم نقول ستُجرى الانتخابات البلدية المؤجلة مرارا..وسندشّن أولى حلقات الحكم المحلّي..وسيكون خيرا بإذن الله.

محمد القوماني
جريدة الرأي العام، العدد 43، تونس في 08 فيفري 2018

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: