الممكن والمستحيل في المفاوضات حول الحكومة القادمة
انطلقت حركة النهضة باعتبارها الحزب المتحصل على أكبر عدد من المقاعد في مجلس نواب الشعب، بمقتضى ما يمنحها الدستور، وبعد مشاورات أولية، في عقد جلسات تفاوضية مع الأطراف المعنية بتشكيل الحكومة القادمة. وقد أكّدت تصريحات قياداتها على أنها تعطي الأولوية للتفاهم على وثيقة للحكم ولطبيعة الحكومة المطلوبة لرفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية المستوجبة في هذه المرحلة، كما أنها حريصة على الانفتاح على مختلف الفاعلين داخل البرلمان وخارجه وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية لتحقيق المطلوب. على أنّ الآجال الدستورية لتشكيل الحكومة لم تحن بعد، ومن المفترض أن يكون الشخصية المكلفة من الحزب الفائز برئاسة الحكومة، طرفا أساسيا في المفاوضات الفعلية لاختيار أعضائها. وفي انتظار ذلك يحق لنا التساؤل عمّا هو ممكن أو مستحيل في المفاوضات حول الحكومة القادمة؟
ليس خافيا على مختلف الفاعلين السياسيين والمتابعين أيضا، صعوبات المفاوضات حول تشكيل حكومة ما بعد انتخابات 06 أكتوبر 2019 وما أفرزته من برلمان متذرّر يفتقد لحزب أغلبي أو لكتل كبيرة. وقد حلّت حركة النهضة في المرتبة الأولي بأقلّ من ربع نواب البرلمان وبكتلة هي الأضعف منذ مشاركتها في انتخابات 2011. وإذ تحاول قيادة النهضة الاستجابة لدعوة ناخبيها وقاعدتها، وبعض الإعلاميين وحتى خصومها من السياسيين، إلى تحمّل مسؤولياتها في قيادة الحكم هذه المرة، بصيغة مباشرة، فإنها لا يمكن أن تقفز على صعوبات التوازنات البرلمانية التي أفرزتها صناديق الاقتراع. فليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
يبدو متفهّما قرار مجلس شورى النهضة في دورته الأخيرة يوم السبت 19 أكتوبر “تحمل الحركة مسؤولية تشكيل الحكومة وترأسها وسعيها الى تعميق الحوار مع مختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين على قاعدة برنامج يضمن لها حزاما سياسيّا واسعا”. فقد جاء ذلك جوابا على مبادرة بعض الأحزاب إلى رفض رئاسة النهضة للحكومة، بل دعت حركة الشعب وأيّدها حزب قلب تونس، إلى ما أسمته “حكومة الرئيس”، بتنازل حركة النهضة عن حقها في تشكيل الحكومة وربح شهرين من الوقت، بالمرور مباشرة إلى الصيغة الدستورية الثانية بتكليف الشخصية الأقدر. وقد تسرب من لقاء الرئيس قيس سعيد بقيادة حركة الشعب امتعاضه من حشر اسمه في المناكفات الحزبية ودعوته إلى الالتزام الحرفي بمقتضيات الدستور. كما انتقد بعض المحللين هذا الاقتراح “البهلواني”، الذي ينمّ عن ضعف في الديمقراطية واستخفاف بالدستور، فضلا عن مخاطره السياسية.
كما لا يمكن تجاهل المزايدات السياسية في بعض المنابر على حركة النهضة، في تبنيها للثورة وأهدافها، والعودة إلى خطابات الاستقطاب الأيديولوجي واتهام النهضة ب”أخونة” الدولة وتوفير “حاضنة للإرهاب” وغيرها من ادّعاءات شيطنة الخصم. وذهب البعض الآخر إلى الازدراء ببعض الفائزين في الانتخابات الأخيرة على غرار تحالف الكرامة، بمجرد تعبير بعض رموزه عن استعدادهم للتحالف مع حركة النهضة، علاوة على التراشق الإعلامي بين أطراف مختلفة. وتلك أسباب إضافية لطرح السؤال المشروع عن الممكن والمستحيل في المفاوضات حول الحكومة القادمة؟
اختارت بعض الأطراف ان تضع نفسها في خانة المستحيل في التحالف مع حركة النهضة في تشكيل الحكومة القادمة. فالحزب الدستوري الحر لا تنفك رئيسته عن تكرار خطابها الفاشي الداعي إلى استئصال حزب النهضة بسحب تأشيرة العمل منه وجرّ قيادته وأنصاره إلى المحاكم والسجون. كما لا تخفي عدم اعترافها بالثورة والتشكيك في منطلقاتها ومسارها، في حنين واضح إلى العهد البائد وتمجيد نظام الاستبداد والفساد. وهي من أشدّ الداعين إلى إلغاء دستور الثورة، الذي منحها حق التنظم السياسي والترشح إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية والعمل ضمن المؤسسات التي أرساها هذا الدستور. وهي من المشككين في نتائج الانتخابات التي تمنحها وأعضاء من حزبها، صفة النواب بالبرلمان القادم. فهذا الحزب، من خلال تصريحات رئيسته، يضع نفسه دون لبس في خانة المستحيل في التفاوض حول الحكومة القادمة مع الحزب صاحب الأغلبية في البرلمان. لذلك يبدو من تثبيت الحاصل تعبير قادة النهضة على أنّ “حزب عبير” غير معني بالاتصالات أو المفاوضات.
وتبدو حركة الشعب أيضا أقرب إلى وضع نفسها في خانة المستحيل بسبب إصرار قادتها على استدعاء العداء الأيديولوجي مع حركة النهضة، واتهامها على غرار عبير، بأنها فرع من جماعة الإخوان المسلمين بمصر. وبذلك تسقط حركة الشعب على بلادنا وتجربتنا أوضاعا غير أوضاعنا، وتقحم في المناكفات الحزبية على منابر الإعلام معارك مع حركة النهضة لا صلة لها بمطالب الناخبين وأولويات الحكومة المطلوبة بعد انتخابات 2019. ولا عجب ان يثير خطاب قادة حركة الشعب ردود أفعال متشنجة من بعض قيادات النهضة وسخطا في فضاءات التواصل الاجتماعي، بما يحيل عل استدعاء أجواء الاستقطاب الأيديولوجي في المسار التأسيسي الأول بعد ثورة 2011.
وباستثناء من يضعون أنفسهم في خانة المستحيل، يظلّ الحوار ممكنا والتفاهم واردا مع بقية ألوان الطيف من داخل البرلمان ومن خارجه. ومن المهم الإشارة في هذا السياق، إلى أنّ فترة جسّ النبض والمشاورات الأولية، قد تصدر خلالها إعلانات أو اشتراطات، لكنّ المفاوضات قد تراجعها، مهما كانت الجهات التي تعلنها. فلا معنى للمفاوضات أصلا إذا لم تغيّر الإعلانات الأولى. وهذا ما يجعلنا متفائلين بمستقبل تشكيل الحكومة في آجالها الدستورية، رغم التلويح بالاستعداد إلى إمكانية حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة، يدرك الجميع كلفتها المادية وتداعياتها السياسية خاصة.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 130، تونس في 31 أكتوبر 2019
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/75362359_635231737007974_7878584232782594048_n.jpg?_nc_cat=102&_nc_oc=AQktP-JwVFdriTw24EVD7aQYrm-c-_rXc8pk6vF7VV7VY_klPkRBeFodnvNHWTKvrYU&_nc_ht=scontent.ftun3-1.fna&oh=9f5010f6dad7b768d663cdf1641ecc50&oe=5E188EDD