التأسيسي الثاني أو تصحيح المسار

لاقى وصف ثورة الصندوق قبولا واسعا في التعبير عن الدّلالات السياسية القوية لنتائج الانتخابات العامة التونسية التشريعية والرئاسية خاصة لسنة 2019. فهي ثورة ثانية من داخل المؤسسات لتثبيت مسار ثورة 2011 وتصحيح مسارها، وليست ثورة مضادّة كما بشّر بها أنصار النظام البائد وعملوا على ذالك بوسائل مختلفة. وتستوجب ثورة الصندوق تأسيسا ثانيا مختلفا عن التأسيس الأول، لكنه مكمّل له ومصحّح في ٱن. فكيف ذلك؟ وما مدى استحضار الفاعلين له وحظوظ نجاحه؟

نجح المجلس الوطني التأسيسي المنتخب في 23 أكتوبر 2011 في المحافظة على استمرار الدولة وتأمين خدمات المرفق العمومي، وفي وضع دستور جديد للجمهورية الثانية حظي بتأييد واسع واستجاب لأهم تطلعات التونسيين في القطع مع الاستبداد والحكم الفردي، وإرساء دعائم الديمقراطية وتوزيع السلطة ومراقبتها وضمان التداول السلمي على الحكم عبر انتخابات حرة وتعددية وشفافة.
فإضافة إلى فكرة الحكم الائتلافي، بعد عقود من انفراد حزب واحد بالحكم، كان توزيع السلطة بين قرطاج والقصبة وباردو، ووجود رئاسات ثلاث من أحزاب مختلفة، مؤشرا قويا على نهاية النظام الرئاسوي والاتجاه نحو نظام برلماني. كما أدارت ترويكا الحكم مرحلة صعبة تلت الثورة، ضعفت فيها الدولة وخضعت للابتزاز أمام نزعة مطلبة عالية وتطلّعات شعبية مشروعة في تغير الأوضاع نحو الأفضل، لم تكن إمكانيات البلاد المتاحة لتستجيب لها.

لكن المسار التأسيسي وقع في أخطاء عديدة وأفضى إلى أزمة سياسية حادة كادت أن تعصف بالمكتسبات جميعا. فلم يكن الخطأ في خيار انتخاب مجلس وطني تأسيسي كما يرى البعض، فهذا الخيار يبدو أقرب إلى جوهر الثورة في النزوع إلى القطع مع منظومة الفساد والاستبداد، بل كان الخطأ في ضعف تمثّل مفهوم التأسيس الذي كاد ينحصر في كتابة دستور جديد، والتعاطي غير المناسب مع مقتضياته.
فقد كان استقطاب المشهد السياسي بين حكومة ومعارضة على سبيل المثال غير صحّي، في سياق تأسيسي كان يقتضي في الحدّ الأدنى وفي المقام الأوّل شراكة لا تطمس التعدّديّة وحقّ الاختلاف، وتقويما عميقا لخيارات الحكم السابق وأخطائه الكبرى والتوافق على ملامح مشروع وطني جديد، يعبّأ الشعب في العمل على تحقيقه وتتنافس الأحزاب السياسية في تقديم البرامج والمقترحات التفصيلية لإنجازه. كما كان التأسيس يقتضي تسريع آلية وطنية متفق عليها للعدالة الانتقالية وللمحاسبة والمصارحة والمصالحة الوطنية، وخلق حالة من الاستقرار وبداية حلّ المشاكل حسب الأولويات في إطار من الشراكة الواسعة والتعاون على رفع التحديات وإنجاح المسار الانتقالي.
ولعلّ ممّا أضعف المشهد السياسي بعد الثورة، رغم المكاسب العديدة على صعيد ممارسة الحريات، هو انزياح هذا المشهد تدريجيا إلى نفس ما كان عليه تقريبا قبل الثورة. ونعني بذلك خاصّة ما انتهى إليه المشهد من حالة استقطاب أيديولوجي وسياسي مع اختلاف تسميات الأطراف وتموقعها في صفوف النخب، مقابل حالة عزوف متنامية من الأغلبية عن المشاركة، واستمرار أزمة التنمية السياسية وضعف ثقافة المواطنة والديمقراطية.

كانت تجربة الحكم المشترك بين حزبي النداء والنهضة المتنافسين الغريمين في انتخابات 2014 مميّزة في سرديّة “الاستثناء التونسي”، أمام العواصف التي عبثت ببقية تجارب ثورات الربيع العربي. إذ نجح الحكم التوافقي في تأمين الاستقرار السياسي ومواصلة المسار الديمقراطي ودحر خطر الإرهاب عن البلاد. وكان المؤمّل أن يتوسّع التوافق في حكومة وحدة وطنية، كما تمّ اشتغال البعض على تحقيق مصالحة تاريخية بين الدستوريين والإسلاميين عموما، بعد عقود من التنافي والصراع، في إطار عدالة انتقالية ومصالحة وطنية عادلة وشاملة.
لكن الحكم التوافقي لم ينتبه إلى مخاطر تأخّر المنجز الاقتصادي والاجتماعي، بعد أن صار ضنك العيش واستفحال الفساد واستقرار معدل البطالة وغلاء الأسعار وانتشار الجريمة المجتمعية، واستمرار الفوارق بين الجهات والفئات مؤشرات على تأزّم الأوضاع مجدّدا وتهديد المنجز السياسي. وباتت الأوضاع ﺗؤذن ﺑﺣدوث اﻧﻔﺟﺎر اﺟﺗﻣﺎﻋﻲ، تؤشر عليه اﻟﺗﺣرﻛﺎت اﻻﺟﺗﻣﺎﻋﯾﺔ المتزاﯾدة، والتي تتغذى بدورها من ﺗﻧﺎﻣﻲ الاحتجاجات ﻓﻲ اﻟﻌﺎﻟم وﻣزﯾد ﺣﺿور المسأﻟﺔ اﻻﺟﺗﻣﺎﻋﯾﺔ.
وقد ألقت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بضلالها على الاستحقاق الانتخابي الرئاسي والتشريعي الأخير، فكانت ثورة الصندوق بمعاقبة الطبقة السياسية برمّتها، حكما ومعارضة، والتعبير عن رغبة جامحة في التغيير. ولن تحقّق ثورة الصندوق أهدافها إلاّ عبر تصحيح فعلي لمسار ثورة 2011 بما يجعل منها تأسيسا ثانيا للجمهورية الثانية.
فلن يكون مسموحا ولا مُجديا بعد انتخابات 2019، تكرار سيناريو الاستقطاب بعد 2011 مهما كانت العناوين، ومهما كانت المناورات والمراوغات، ومهما حصل من توظيف للمستجدات. ففي هذه المرحلة يبدو التونسيون في غالبيتهم مجمعين على ما يريدون وما لا يريدون أيضا، وتبدو برامج الأحزاب ووعودها متقاربة إلى حدّ التشابه، في تقدير الأولويات وتدارك مخاطر الاستغراق في المسار السياسي على حساب التحديات الاقتصادية والاجتماعية. لذلك توجد فرص حقيقية للالتقاء بين فرقاء، إذا كانوا حقا حريصين على استكمال تحقيق أهداف الثورة بالاستفادة من أخطاء التأسيس الأول في إنجاح التأسيس الثاني.
لذلك يبدو مُستغربا وغير مقبول، انزياح الحوار غير المباشر بين الكتل الأولى في البرلمان الجديد، دون استثناء، إلى الحديث عن رئاسة الحكومة القادمة وتوزيع الحقائب الوزارية، بدل الحديث عن البرنامج الإصلاحي المتأكد للإنقاذ الاقتصادي والتصدي للقضايا الاجتماعية الملحة الذي تجسده وثيقة معلنة يكون الشعب شاهدا عليها، وعن الشراكة التعاقدية المستوجبة بين مختلف الأطراف، بتوضيح طبيعة الحكومة المطلوبة وحجمها، والتي تُراعى فيها الكفاءة قبل المحاصصة، وتحظى بتزكية أغلبية نيابية ودعم قوى سياسية واجتماعية من خارج البرلمان، علاوة على مصداقية كافة أعضائها والقبول الشعبي لهم.
فلا سبيل لتجاهل النواب الجدد من الأحزاب والمستقلين، لأسئلة الناخبين الحارقة، على غرار ما هي حلولكم لمشكلة المديونية المتفاقمة التي ستواجهكم مباشرة بعد تسلّم مهامكم في إقرار ميزانية 2020؟ كيف ستعالجون العجز في الميزانية وفي الميزان التجاري؟ وكيف تعيدون التوازن للمالية العمومية؟ ما الحلّ لخفض ملحوظ لنسبة البطالة؟ وكيف السبيل للتعاطي مع حوالي المليون من المعطّلين؟ ما هي رؤيتكم للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المتأكدة؟ كيف تخفّضون كتلة الأجور بالميزانية ونسبتها في مختلف الوزارات؟ كيف ستتعاطون مع المؤسسات العمومية ذات الصبغة الانتاجية التي تعاني من الخسائر والديون؟ وكيف ستجلبون الاستثمار وتخلقون الثروة؟ ما هي برامجكم المقترحة لتحسين البنية التحتية والنهوض بالصحة والتعليم والنقل؟ وما هي مصادر تمويل الإصلاحات؟ ما معنى الحوكمة الرشيدة؟ وكيف تقيسون نجاحها؟ ما هي خططكم المرحلية للقضاء على الفساد ومحاربة الفقر؟ ماذا ستفعلون مع الاقتصاد الموازي؟ كيف تدمجونه؟ ما هي الحوافز وآليات الردع؟ ماهي مقترحاتكم العملية للعدالة الجبائية؟ وكيف ستجعلون المهن الحرة تخضع لما تقرّرون؟ ما هي مشاريعكم للجهات المهمشة ولتفعيل التمييز الإيجابي؟ هل أنتم مع منحة للبطالة ودفتر علاج لكل مواطن؟ من أين ستموّلون ذلك؟ كيف ستتعاملون مع توقيف الإنتاج في مصالح حيوية؟ كيف ستضعون حدّا للجريمة المجتمعية التي صارت تهدّد أمن المواطنين؟ ما هي مقترحاتكم العملية لإرساء دولة عادلة وقوية؟
هذا غيظ من فيض، وهذه عيّنة من أسئلة حارقة لا نجد لها صدى في منابر الإعلام وحوارات السياسيين هذه الأيام، ممّا يغذّي لدينا المخاوف من إضاعة الفرصة مرّة أخرى، التي قد تكون الفرصة الأخيرة وقد تكون كلفتها باهظة أكثر مما نقدّرها. ويظل الأمل قويا في التقاط اللحظة والتجاوب مع الموجات الإيجابية التي ترسلها مبادرات الشباب الأخيرة في تنظيف المدن وفي غيرها. فقد سمعت من رئيس الجمهورية قيس سعيد ومن بعض أنصاره كلاما عن ثورة ثقافية، أي تغيير إيجابي للذهنية والسلوك، وهذا أمر محمود وليس تحقيقه بعزيز. ففي البدء كانت الكلمة.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 129، تونس في 24 أكتوبر 2019
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/74437269_629267870937694_2660679141191319552_n.jpg?_nc_cat=110&_nc_oc=AQk7GB_-zaidW8pcBy9yMlSzm-e1xCoA14-G60WgMyZvYUdRt73zNNJ6EkuWATy7uO4&_nc_ht=scontent.ftun3-1.fna&oh=808331051eee02f88e324699b74e74ca&oe=5E610FC9

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: