الغرياني مستشارا للغنوشي: السياق والرسائل والكُلفة
أثار خبر تعيين آخر أمين عام للتجمع الدستوري المنحلّ محمد الغرياني، مستشارا بديوان رئيس البرلمان راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة، جدالا وتعليقات متياينة في الداخل والخارج. ونرى من المفيد بداية توضيح طبيعة هذا التعيين، حتى يسهل علينا ما نروم التوقّف عنده من بيان لسياق هذا الخيار للغنوشي في هذه المرحلة وأهمّ رسائله السياسية خاصة في علاقة بمصالحة وطنية تحدث عنها الغرياني، ولكلفة هذا الخيار أيضا. فاختيار الغرياني قرار شخصيّ يعود للغنوشي بصفته رئيسا للبرلمان، ويستند إلى حريته في تعيين أعضاء ديوانه، ولا يتّصل بالتعيينات ذات الصبغة الإدارية بمجلس نواب الشعب التي لها آلياتها المعروفة. كما أنّه تعيين يتّصل بمسؤولية في إحدى مؤسسات الدولة وليس تعيينا حزبيا بهياكل حركة النهضة. لكن حين نستحضر صفة الرجلين قبل الثورة، باعتبار الغنوشي أهم خصوم النظام السابق ورئيس الحزب الذي دفع تكلفة باهظة في مقاومة الاستبداد، وباعتبار الغرياني الأمين العام لحزب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، الذي قامت عليه ثورة الحرية والكرامة، وحين نستحضر خصوصيات الانتقال الديمقراطي في تونس ومصاعبه في هذه المرحلة، نتبيّن أكثر الطابع الوطني والسياسي للموضوع محلّ اهتمامنا.
يبدو تعيين الغرياني، مستشارا بديوان رئيس البرلمان راشد الغنوشي، خطوة متوقّعة ومتفهَّمَة وربّما متأخّرة في نظر بعض المتابعين. فقد غيّر الغنوشي مبكّرا موقفه من التعامل مع رموز منظومة الحكم السابق. فصدع بمعارضته لمشروع قانون العزل السياسي وصوّتت كتلة حركة النهضة ضدّه بالمجلس الوطني التأسيسي فأسقطته. وكان لقاء باريس سنة 2013 بين المرحوم الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي محطّة فارقة في إنقاذ التجربة التونسية من أزمة سياسية حادة تردّت إليها الأوضاع، بعد الاغتيالات السياسية واشتداد الاستقطاب وتضاعف التآمر الداخلي والخارجي على الثورة. وتدعّم التوافق بين الزعيمين، ليشمل حزبي النداء والنهضة المتنافسين الغريمين في انتخابات 2014. فكانت تجربة الحكم المشترك وسرديّة “الاستثناء التونسي” أمام العواصف التي عبثت ببقية تجارب ثورات الربيع العربي. كما تمّ اشتغال البعض على تحقيق مصالحة تاريخية بين الدستوريين والإسلاميين عموما، بعد عقود من التنافي والصراع، في إطار عدالة انتقالية ومصالحة وطنية عادلة وشاملة. وظلّ الغنوشي باستمرار يلتقي شخصيات من رموز حكم ما قبل الثورة داعيا للمصالحة الوطنية، وكان محمد الغرياني من بينهم في مناسبات عديدة، آخرها الأسبوع المنقضي. ولذلك نعد تعيينه خطوة أخرى في مسار لم يكتمل.
لم يتأخّر محمد الغرياني بدوره عن الاعتذار عن فترة الاستبداد والفساد ودعمه لثورة الحرية والكرامة، وكان له حضور إعلامي وتجارب حزبية جديدة في حركة نداء تونس وحزب المبادرة وحركة تحيا تونس. وهو لا يخفي قناعته بالحاجة إلى علاقة إيجابية مع حركة النهضة بعد الثورة. وكان قريبا من وداديّة قدماء البرلمانيين التونسيين التي أصدرت في الذكرى الستين لقيام الجمهورية بيانا سياسيا بعنوان “القراءة النقدية لسياسات فترة الحكم في تونس من سنة 1955 إلى سنة 2010”. ولا يخفى على المتابعين أنّ هذه الوداديّة، عنوان سياسي رغم صبغتها الجمعياتية. فهي تضمّ إطارات مهمّة جدّا ممّن عملوا في البرلمان زمن حكم بورقيبة وبن علي، ولكن كانوا أيضا قيادات في الحزب الدستوري بمختلف مراحله وتسمياته. وقد كان البعد النقدي واضحا في البيان مهما بدا محتشما، بما يؤشر بوضوح على تدشين الدساترة مرحلة من المراجعات الضرورية والوقوف على الأخطاء وتصويب الأمور في المستقبل، على غرار ما فعل الإسلاميون وحركة النهضة أساسا.
فالتعيين يتوّج علاقة بين الغنوشي والغرياني ولا يبدؤها، وهو تصحيح لوضعية واستفادة من نقد لديوان رئيس البرلمان الذي اقتصر على عناصر نهضوية أو قريبين من النهضة خلال الدورة المنقضية. وهو أيضا عنوان رغبة في الانفتاح على سائر الطيف السياسي، ولا نستبعد تعيينات قادمة في اتجاهات أخرى. والأهمّ من كل ذلك ما صرّح به الغرياني من حديث بينه وبين الغنوشي في اللقاء الأخير عن الحاجة إلى دفع مسار المصالحة الوطنية الشاملة ودوره في المساعدة على ذلك. وهو الهدف الذي تؤكد التجاذبات الحادّة داخل البرلمان وخارجه، وعدم الاستقرار الحكومي، والمناكفات بين مؤسسات الحكم، والمخاطر الاقتصادية والاجتماعية، الحاجة الأكيدة إليه.
فقد فتحت ثورة الحرية والكرامة بتونس ملفّات عديدة، من أهمّها حسم الصراع بين المتنفّذين القدامى الماسكين بالحكم سابقا والمستفيدين من الثورة من الحكّام والفاعلين الجدد، وبين الضحايا والجلادين، وبين رجال الأعمال “الرسميين” المتنفذين في الدولة وبين “الأثرياء الجدد” المتنفذين في الاقتصاد الموازي والمتطلّعين إلى أدوار مؤثّرة في الدولة والمجتمع، وبين الجهات الداخلية المحرومة والفئات المهمّشة والمركز المتحكّم والطبقة المرفّهة، وبين الخصوم الإيديولوجيين من المدارس المختلفة…إضافة إلى ما تتيحه الثورة من فرص لتصفية حسابات قديمة أو تحقيق تطلّعات فردية أو فئوية أو فكرية بما في ذلك النزعات الفوضوية في إسقاط الدولة أصلا. فالتحوّلات الكبيرة والظروف الاستثنائية التي تصاحبها، تحرّك النزعات والأطماع أيضا. لكن المشكلة في بلادنا أنه بعد نحو 10 سنوات عن الثورة لم تحسم هذه الصراعات بما جعل الاستقرار السياسي مهدّدا.
كان الصراع قويّا بصور معلنة وأخرى مخفية، حول تحديد وجهة الثورة التونسية، بين مساري التغيير الجذري وتصفية المنظومة القديمة للحكم بأشخاصها وممارساتها (المحاكمات والعزل والتأسيس…)، والانتقال الديمقراطي وما يفرضه من معجم مخصوص وتسريع للإصلاح وتسوية سياسية بين القديم والجديد (الحوار والتوافق والمصالحة…). وقد حسم الأمر بوضوح لصالح المسار الثاني. وبالعودة إلى تجارب سابقة لنا في الانتقال الديمقراطي، شرقا وغربا، نتبيّن أن المصالحة ممرّ لا غنى عنه في هذا المسار. وأن تلك المصالحة تشمل المسؤولين السابقين في الحكم والمنتفعين منه، مهما كان حجم التهم الموجهة إليهم. وأن تلك المصالحة سياسية في المقام الأول وتسوية لا تلتزم ضرورة بمقتضيات القانون والعدل، وإنما تقوم أساسا على التراضي والرغبة في التجاوز وعدم العودة لما كان. وممّا زاد في تأخّر المصالحة الوطنية ببلادنا، عدم وفاء المجلس الوطني التأسيسي بما كان محمولا عليه من مقتضيات التأسيس لجمهورية ثانية. فحُصرت مهمّته في كتابة الدستور وتمّ الضغط عليه في الزمن وانقسم المشهد على غير طبيعته إلى حكم ومعارضة وسادت التجاذبات وضاعت الأولويات، فلم يتمّ تقييم القديم بعمق ولم يحصل حوار حول مشروع وطني جامع ولم يتحدّد مسار الثورة والبلاد بوعي وتخطيط وظلّت أزمة الثقة بين الأطراف السياسية السابقة للثورة على حالها أو ازدادت حدّة.
وقد بات واضحا بعد نحو 10 سنوات من الثورة، أنّ الصراع حول مختلف العناوين سيظلّ مستمرّا بنفس التجاذبات والآليات، ما لم ننفذ إلى جوهر المشاكل وإلى معالجة الإشكالية الرئيسية التي تختزل جميع العناوين الفرعيّة. فالمكاسب “التكتيكية” لا تغني عن مآزق المسائل “الاستراتيجية” ولا تحسمها. وأنّه لا بديل عن تسوية تاريخية شجاعة، تشمل الجوانب السياسية والاجتماعية والجهوية والثقافية وغيرها. فما دام الحاكمون القدامى لا يقرّون بأيّة مشروعية للحكّام أو الشركاء في الحكم الجُدد، وما ظلّ الجلّادون يتمنّعون عن كشف الحقيقة والاعتذار، وما بقي الضحايا يشعرون بالغبن والمظلومية وعدم الاعتراف، وما ظلّ المركز يستحوذ على السلطة والثروة وينكر على الأطراف حقوقها ومشروعيّة مطالبها وتطلّعاتها، وما دام المتنفّذون في الدولة يعاملون من يمسكون بنصف الاقتصاد أو أكثر على أنّهم مارقون عن الدولة ولا مكان لهم في الحوار حول مستقبل البلاد، ومادام ثوّار ما بعد الثورة يحلمون بالتغيير الجذري والسيادة الشعبية على الثروة والسلطة والسلاح ولا يعيرون الاهتمام اللازم لمنطق الدولة ولا للعلاقات والالتزامات الدولية وموازين القوى الاقليمبية والمصالح المتشابكة، وما ظلّت الثقة منعدمة بين الأطراف السياسية والاجتماعية، وما دام الفاعلون السياسيون لا يستحضرون مقتضيات الانتقال الديمقراطي من معجم وأولويات تستبعد الانتقام والثأر والاستئصال وتستحضر التوافق والمصالحة والتنافس والتعايش السلمي والتداول الديمقراطي، وما دام مطلب المصالحة الوطنية مؤجلا وخاضعا إلى أجندات شخصية أو حزبية أو فئوية أو ربما خارجية، وما دام ..وما ظلّ.. فلن نبارح وضعنا المتدحرج، حتى تحصل الكارثة الكبرى لا قدّر الله. ولن ينفع يومها الجدال حول تحديد المسؤولية في الحدّ من الخسائر الجسيمة التي ستطال الجميع. فالمصالحة الوطنية الشاملة والعادلة تحتاج إلى شروط عديدة أسلفنا ذكر بعضها، ونحسب أنّ أحدها أو أهمّها التصالح بين “الدستوريين” و”الإسلاميين” الذين يشكّلون محور العملية السياسية قبل الثورة وبعدها.
سيظلّ البعض يزايدون على الغنوشي وعلى حركة النهضة في علاقة برموز النظام السابق، متجاهلين حقائق دامغة. فإلى متى نتجاهل أنّ شخصيتين من النظام القديم ترأستا المرحلة الانتقالية في قرطاج والقصبة، والشعب انتخب أحدهما رئيسا للجمهورية الثانية. وهل ينسى المزايدون أنّ بعض وزراء بن علي عادوا إلى الوزارات نفسها التي قامت الثورة وهم على رأسها. وهل ينكرون أنّ اعتصام باردو في 2013 ومحطات سياسية عديدة لاحقة وآخرها محاولة سحب الثقة من الغنوشي رئيسا للبرلمان، اختلطت فيها الأوراق والتحالفات والتكتيكات وكان التنسيق بيّنا بين رموز”ثورجية جديدة” وأخرى “فاشية قديمة”. وعلاوة على ذلك من المهمّ أن ننتبه إلى أنّ “تحالفات الثوريين” لم تنجح منذ عشر سنوات وتعادى بعض أطرافها. وأنّ الصراع صار قائما بين خيار التصالح والتعايش بين المختلفين والإدماج وخيار التنافي والإقصاء والتهميش. فالثورة تجبّ ما قبلها، ومن ينخرطون في أهدافها ومسارها، ويلتزمون بدستورها، مهما كانت مواقعهم قبلها ومهما كانت إسهاماتهم في قيامها، لا فضل بينهم ولا عداوة، وأيديهم ممدودة لبعضهم لطيّ صفحة الماضي بسلبياته ومكاسبه، ولكتابة صفحات جديدة مشرقة من تاريخ تونس، والتنافس على خدمتها وتقديم البرامج الكفيلة بالاستجابة لتطلعات شعبها، والتداول على حكمها بما تقتضيه نتائج انتخاباتها الحرة والتعددية.
لا يخلو خيار سياسي من مكاسب وكلفة محتملة. ونحسب أنّ رئيس البرلمان راشد الغنوشي بتعيينه محمد الغرياني في ديوانه، يجازف مرة أخرى في وضع لا تخفى تعقيداته من خلال الصراعات الداخلية في حركة النهضة في أفق المؤتمر 11، وفي مشهد سياسي وطني وإقليمي متحرّك كما لم يحصل من قبل ومفتوح على تغييرات قد تكون مزلزلة. وتبقى العبرة بالنتائج كما يقال في الرياضة وفي السياسة أيضا.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 179، تونس في 29 أكتوبر 2020
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25