الحكم بالتعطيل..العربدة والتحيّل على الديمقراطية

        يعود الحديث بقوة خلال الفترة الأخيرة حول المسؤولية عمّا آلت إليه الأوضاع الصحية والاقتصادية. ويسارع المستثمرون في اليأس والإحباط مثل كل مرّة إلى استغلال المؤشرات السلبية للانقضاض على التجربة الديمقراطية التي أرهقهم استهدافها دون جدوى. وها هم يجدون في ارتفاع ضحايا وباء كورونا وما تخلّفه الوفيات اليومية وعذابات المصابين في المراكز الصحية ما يغذّون به أحقادهم. فيرفعون من نسق أنشطتهم بافتعال كذبة كبرى حول مطالبة النهضة بتعويضات ثلاثة آلاف من المليارات، وينشئون الصفحات الفايسبوكية المشبوهة للتشويه والتحريض والدعوة إلى الثورة المضادة كالعادة يوم 25 جويلية الجاري. وفي الأثناء تتقاطع أجندات إرباك البرلمان وتدخل سرعتها القصوى في محاولة تعطيل أعمال المجلس ومنع المصادقة على مشاريع القوانين. ولكن تفشل العربدة  مرة أخرى، وتنجح الأغلبية في التصويت فيزداد الوعيد مع كل هزيمة. وتتواتر الشواهد وتتقاطع الأدلّة خلال هذه المدّة، وعلى امتداد عشرية الثورة، على أنّ التعطيل آلية للحكم لا تعفي أصحابها من المسؤولية لا سيما في المرحلة الانتقالية. لكن أحسب أنّ السؤال الأهم يظلّ ماذا سيكسب الشعب والبلد من مناكفات الأطراف حول تحمّل المسؤولية؟ وأيّ أفق للخروج من الأزمة المركّبة والتراكميّة والمتشابكة في ظلّ هذا المنسوب المتزايد من الكراهية والاحتراب؟

        أقرّ بداية ومجدّدا بتحمّل حركة النهضة لجزء هام من مسؤولية حكم تونس خلال فترة ما بعد الثورة، وارتكابها أخطاء غير قليلة، ذات تداعيات سلبية على جماهيريتها ورصيدها الانتخابي المتراجع، وأيضا على ما انتهت إليه الأوضاع من تردّ على أكثر من صعيد. وهذا متداول بكثرة في الأوساط الإعلامية والشعبية، لكن للأسف يحصل النقد المشروع ب  مع مغالطات ومبالغات محكومة بدوافع مختلفة بين الحقد السياسي والأيديولوجي وأجندات استهداف التجربة الديمقراطية، وبين غياب المعطيات الموضوعية  والوقوع تحت تأثير التضليل الإعلامي. ولا يخلو هذا الخطاب الانتقادي من منسوب عال من العنف اللفظي الآخذ في التزايد.  وهذا ما يُقابل أحيانا في الأوساط النهضوية بخطاب الإنكار والتعصّب المدفوع بعاطفة الانتماء ومهاجمة المخالفين بمنسوب من العنف االفظي أيضا. دون أن يحجب ذلك وجود خطاب نهضوي داخلي في النقد والمراجعة والتصحيح.

         وما أروم التوقّف عنده في تفاعل مع مستجدات الأيام الأخيرة هو مراجعة بعض المعطيات التي يراد تقديمها على أنها  مسلّمات على غرار القول بأنّ حركة النهضة تتحمّل عبء الحكم الذي لم تغادره منذ انتخابات  أكتوبر 2011. أو أنّ من يشكّلون ما يُعرف بالحزام السياسي للحكومة يتحملون وحدهم نتائج الحكم. إذ أحسب أنّ مسؤولية من يحلو لهم تصنيف أنفسهم في المعارضة مؤكدة في محصّلات ما آلت إليه الأوضاع، من خلال ما أصفه بالحكم بالتعطيل وتعمّد العربدة والتحيّل على الديمقراطية.

        ولا تقتصر الشواهد على ما تمنحه الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية على سبيل المثال من إمكانيات للتعطيل. ولنا فيما عايشناه مؤخرا مع الرئيس قيس سعيد من تعطيل للتحوير الوزاري، أو عدم ختم قانون المحكمة الدستورية ونشره، أو عدم تقديم الدعم الديبلوماسي المطلوب للحكومة  لحشد موارد مالية خارجية لدعم ميزانية الدولة، أو جلب التلاقيح لمواجهة جائحة كوفيد 19، لنا في هذه شواهد كافية لوحدها للكشف عن حجم تداعيات التعطيل على أداء الحكم وتردّي الأوضاع في مختلف المجالات. وتكمن المفارقة مع هذه الشواهد على سبيل الذكر لا الحصر، في إصرار رئيس الجمهورية في كل خطاباته  على التفصّي من المسؤولية وتحميل النتائج ل”هم” وحدهم.

        ويمتدّ الحكم بالتعطيل إلى البرلمان حيث تكون الصورة أوضح. فمن المجلس الوطني التأسيسي (2011 ـ 2014) مرورا بالفترة النيابية الماضية (2014 ـ 2019) وصولا إلى الفترة النيابية الحالية (2019 ـ 2024) بدورتيها، لعبت “المعارضة” أدوارا متقدمة في صياغة الخيارات والقرارات، بدءا بمضامين الدستور وأهم مواد النصوص التشريعية في مختلف المجالات، وانتهاء بتعطيل استكمال تنزيل الدستور في الحكم المحلي  وإرساء الهيئات الدستورية على سبيل المثال. وكثيرا ما  تعمد الأقلية المعارضة إلى العربدة والتحيّل على الديمقراطية لفرض دكتاتوريتها على الأغلبية. فهي تمنع الحزب الفائز بالمرتبة الأولى في التشريعية من وزارات السيادة باسم تحييدها في المرحلة التأسيسية، وتفرض عليه التخلي عن رئاسة الحكومة بعد انتخابات 2019  لتنتهي كما هو الحال إلى إقصائه تماما في حكومة غير المتحزبين.  وتلك صيغ مبتدعة تونسيا في التحيّل على الديمقراطية، التي تمنح الحكم لمن لا يتقدّمون للانتخابات أو يفشلون فيها. أما في حكومة التوافق برئاسة حركة نداء تونس  بعد 2014، فنستحضر ما صرح به رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد مؤخرا من  “أنّ مشاركة حركة النهضة في الحكم في الفترة من  2014 إلى 2019، كانت رمزية، وأنّ المقود كان بيد رئيس الجمهورية الراحل الباجي قايد السبسي وحزب النداء”.

        وقد كانت العربدة وأجندات التعطيل أكثر حضورا في الدورتين النيابيتين الأخيرتين، سواء بمكتب المجلس أو بالجلسة العامة، بالتداول أساسا بين الكتلة الفاشية بقيادة النائبة  عبير موسي والكتلة الديمقراطية بقيادة النائبة سامية عبو، وكلاهما في مفارقة صارخة “مساعد رئيس” للغنوشي وعضو بمكتب المجلس الذي تعود إليه مسؤولية تسييره بمقتضى نظامه الداخلي. ويدرك كل متابع كلفة العربة ومحاولات التعطيل المتكررة وغير المسبوقة على الحكم، وتداعياتها السلبية في الصورة والحصائل، رغم نجاح الأغلبية في منع التعطيل وفرض إرادتها في تمرير القرارات بمكتب المجلس أو المصادقة على مشاريع القوانين بالجلسة العامة. ويبقى البرلمان أحد مؤسسات الحكم الأساسية، وأعضاؤه مشاركون في الحكم مهما اختلفت مواقعهم على غرار الكتلة الديمقراطية في الفترة الحالية. وتلك أمثلة للتعطيل من داخل المؤسسات الرسمية، وتوجد غيرها من خارجها.

        وإذ تبلغ العربدة مداها مع الكتلة الفاشية في افتعال الاعتصامات وفي خزعبلات احتلال منصة الرئاسة ونقل الاجتماعات على المباشر واستعمال مضخّمات الصوت للتشويش وافتكاك كاميرات التلفزة الوطنية، فإنّ الأخطر منها هذه الأيام هو ارتفاع منسوب العنف اللفظي بتعمّد نواب مستقلين أو من أحزاب، توعّد المؤيدين للحكومة والتحريض على مؤسسات السيادة. ففي الأيام الأخيرة اشتدّ حنق النائب منجي الرحوي، وحيد الكرسي، فصار سلوكه عُصابيا في الجلسة العامة، ودعا من داخل البرلمان إلى التمرّد على الحكومة واحتلال مراكز السيادة من معتمديات وغيرها، في مخالفة فاضحة للقوانين. وتوعّد النائب هيكل المكي من حكة الشعب في تدوينة له النهضويين في إشارة غير خافية، بأشدّ مما حصل للإخوان المسلمين بمصر قائلا  لهم بصريح العبارة “ستدفعون أثمانا تكون مقابلها محنتكم في مصر أحسن أمنياتكم”. أما أمين عام حركة الشعب زهير المغزاوي، فكانت آخر مداخلاته في الجلسة العامة وعيدا للحزام الحاكم “بما لا يتوقعونه أصلا”.

        لن ننفكّ عن التذكير بأنّه في ظلّ مشهد عربي درامي تُقايض فيه الحرية والكرامة بالأمن ولقمة العيش، ويبدو فيه انهيار البلدان ثمن التخلص من الحكّام، نرى أنّ تصحيح مسار الثورة وإنقاذ البلاد وإصلاحها، أيسر وأقلّ كلفة من سيناريوهات الانقلاب على الديمقراطية مهما كانت عناوينها وآلياتها. ورغم منسوب الكراهية المخيف، والعنف المتنامي لفظيا وماديا حتّى، على غرار ماشهده البرلمان مؤخرا، لا بدّ أن ننتبه، ولا أستثني أحدا، إلى أنّ عنادنا جميعا يوشك أن يسقط تجربتنا الديمقراطية الرائدة بين أيدينا. وأذكّر نفسي والكافّة بأن لا أحد يستفيد من سقوط السقف على الجميع. إذ لن ينفع ندم أو تلاوم بعدها، كما لن يكسب وطنيّ من ضياع الوطن وإدارة التوحّش.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 214، تونس  في  15 جويلية 2021  

   

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: