التونسيون يكتشفون رئيسهم متأخّرين
تعدّدت لقاءات رئيس الجمهورية قيس سعيد خلال الفترة الأخيرة وتكرّرت خطبه الرتيبة شكلا ومضمونا، لكن ظلّ الغموض يكتنف مواقفه ورسائله. ويتّضح بعد حوالي السنتين من رئاسته أنّ هذا الغموض أصيل في بنية خطابه ومقصود في جانب منه. ولذلك لا عجب أن يكثر المتحدثون باسم الرئيس دون صفة رسمية، وأن يستمرّ الجدال في منابر الإعلام حول تصريحاته في كل مناسبة. ومع مرور الوقت بدأ التونسيون يكتشفون رئيسهم الذي انتبهوا متأخرين إلى أنّهم انتخبوه بنسبة عالية من الأصوات دون أن يتعرّفوا عليه جيّدا. فبعد أن أشار الرئيس سعيد بنفسه في مناسبة سابقة إلى أنه “ينتمي إلى كوكب آخر”، ها هو يذكّر رفيق دربه رضا شهاب المكي في لقائه الأخير به يوم الثلاثاء 22 جوان 2021 أنّهما كانا يتحدثان قبل انتخابات 2019 “في مسائل أخرى مختلفة تماما عن المسائل التي يتحدّثون فيها” ويعني عموم النخب التونسية. وأروم في هذا السياق تسجيل بعض التساؤلات والاستخلاصات والملاحظات التي أرى ضرورة استحضارها في محاولة فهم الخطاب السياسي لرئيس الجمهورية، لا سيما ما يتصل منها بأهمّ مرتكزات ما يمكن أن نصفه بالمشروع السياسي للرئيس قيس سعيد، الذي عاد ليشكّل محور اهتمام في الفترة الأخيرة بعد تصريحاته حول الدستور والنظام الانتخابي. فقديما قالوا: “إذا عُرف السبب بطل العجب”.
1 ـ أتساءل بداية لماذا لا يتوجّه رئيس الجمهورية إلى الشعب التونسي بخطاب مباشر وصريح، مهما كان طوله، حول القضايا التي تشغل الناس أو تلك التي يروم الرئيس التحدث فيها. فقد دأبت الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية على بث ّ فيديوهات مسجّلة يغلب عليها التقطيع والتركيب لكلام الرئيس في مناسبات مختلفة، وكثيرا ما تكون بين يديه أوراق ينظر فيها، ولو كان اللقاء ثنائيا، والحال أنّ الدستور يمنحه حقّ مخاطبة الشعب من منبر البرلمان، فضلا عن تكفّل وسائل الإعلام وفي مقدمتها التلفزة الوطنية ببثّ أي خطاب لرئيس الجمهورية. وفي كل الأحوال يكون الخطاب المباشر أكثر مصداقية في التعبير عن صاحبه.
2 ـ لماذا تثير تصريحات رئيس الجمهورية جدالا في كل مناسبة، حول معجمها ومعانيها، وهو الأستاذ الجامعي الذي ارتسمت صورته لدى غالب التونسيين بالفصاحة. وإلى متى تظلّ بعض التصريحات مبتورة بسبب الحذف والتركيب؟ وهل يبدو الانتقال في المواضيع منطقيا ومقنعا؟ أم قد يكون التداخل الظاهر أحيانا والعودة غير المقنعة إلى ماسبق وتكرار نفس الجمل تقريبا، من تقنيات التواصل المعتمدة من الرئيس سعيد أم تعود لأسباب أخرى؟ وهل يثير المزج بين قراءة النص المكتوب والارتجال التباسا في مواقف الرئيس مما يضطره للتراجع أحيانا عن تصريحاته أو إنكار ما يتم التصريح به، على غرار موقفه الأخير من الحوار الوطني لسنة 2013 الذي وصفه بأنه “ليس حوارا وليس وطنيا على الإطلاق”. فالأصل أنّ المواقف والأفكار الواضحة يُعبّر عنها بوضوح.
3 ـ يتعمّد القائمون على الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية والمكلّفون بالتواصل بقرطاج، باجتهاد منهم أو بتعليمات، بثّ كلام الرئيس مع ضيوفه مهما كانت صفاتهم، دون بثّ أيّ تفاعل لهؤلاء مع الرئيس. وهذا الأسلوب المتكرّر الذي تمّ انتقاده مرارا من الناحية الشكلية والبروتوكولية، لما فيه من رسائل في التعالي وتصغير الضيوف ونزعة في التدريس والإملاء، لا يعطي صورة حقيقية عن حوارات رئيس الجمهورية وقدرته على الإقناع والتفاعل، ولا يوفّر المادة الإعلامية الدنيا للمتابعين لرصد المواقف المختلفة وتحليلها.
5 ـ أفصح الرئيس سعيد عن مراده مؤخرا أمام رؤساء الحكومات السابقين حين دعا مخاطبيه إلى “حوار متساوق مع مسار التاريخ” وذكر أنّه يريد “حوارا يمهّد لحوار آخر” من أجل “نظام سياسي جديد” و”دستور حقيقي”. وتأكد با يقطع الشك باليقين أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والصحية ليست من أولويات رئيس الجمهورية ولا يكاد بعيرها اهتماما في خطاباته وأعماله. ونُقل عن الرئيس رغبته في العودة إلى دستور 1959 الذي أطنب في مدحه خلال لقائه هذا الأسبوع السيد لطفي زيتون، مقابل ذمّ دستور 2014 واعتباره “مُقفلا” وغير مناسب لواقعنا التونسي وتحتّم التجربة استبداله. وكم بدا رئيس الجمهورية متحاملا وغير متناسق في هذا الموقف العجيب.
فهو الذي ترشّح إلى منصبه بمقتضى دستور 2014، وأقسم بعد فوزه على احترام الدستور والتشريع القائم، وهو الأستاذ السابق في القانون الدستوري الذي يعرف جيّدا أنّ الدستور الحالي ليس مقدسا وأنه قد وضع آليات لتعديله ما عدا الفصلين 1و2. وبناء على ذلك فإنّ رئيس الجمهورية يحنث اليمين ويرتكب خطأ جسيما، حين يدعو إلى إلغاء هذا الدستور ويلتمس طرقا غير دستورية في تغيير النظام السياسي. فبرفضه ختم قانون المحكمة الدستورية ونشره بعد ردّه إلى البرلمان والمصادقة عليه بأغلبية معززة، وبعد اعتباره المحكمة الدستورية في “حكم المستحيل”، بناء على تأويل “شاذ” للأحكانم الانتقالية، يكون الرئيس سعيد قد أقفل عمليا مسار تعديل الدستور الذي يدعو إليه، ووضع مشروعه السياسي المبهم خارج السياق الدستوري، ووضع البلاد في مأزق سياسي غير مسبوق.
6 ـ يُحسب للتجربة التونسية تقيّدها بأحكام الدستور في أصعب الأوضاع، رغم التلاعب بالتعديلات على المقاس أكثر من مرّة. ففي “تغيير 7 نوفمبر1987” أطاح الرئيس بن علي بسلفه بورقيبة استنادا إلى مادة دستورية. كما تمّ تأطير ثورة 14 جانفي 2011 دستوريا بنقل السلطة إلى الوزير الأول آنذاك محمد الغنوشي، وإلغاء الدستور وحلّ مجلس النواب، استنادا إلى فصول في دستور 1959 معدّلا، ووضع “دستور مؤقت” لإدارة البلاد قبل فراغ المجلس الوطني التأسيسي من المصادقة بما يقترب من الإجماع على دستور 2014. وبذلك يُعدّ دستور 1959 من الماضي بكل المقاييس، بصرف النظر عن تقييمه ومقارنته بدستور 2014، وتعدّ الدعوة إلى العودة إليه نزعة انقلابية غير خافية، علاوة على استحالة تحقّفها.
ولن تبرّر رغبة الرئيس سعيّد ولا غيره في نظام رئاسي، واعتراضاتهم على دستور 2014 الحنين إلى دستور 1959، ولا الدعوة إلى استفتاء شعبي بما يخالف أحكام الدستور الحالي، الذي يقيّد دعوة رئيس الجمهورية إلى الاستفتاء حصريا على قانون يصادق عليه مجلس نواب الشعب ويختار رئيس الجمهورية عدم ختمه ونشره ولا ردّه ولا الطعن فيه.
7 ـ اختار التونسيات والتونسيون الأستاذ قيس سعيد من بين مرشحين عديدين، الذي تبيّن أنهم لا يعرفونه بما يكفي، لا قبل الثورة ولا بعدها، وصوّتوا له بأغلبية لافتة ليكون رئيسا للجمهورية. وذهب أغلب المحلّلين إلى اعتبار ذلك رفضا من الناخبين من الشباب خاصة، لمرشحي الأحزاب والوجوه المعروفة في المشهد السياسي، ورغبة جانحة في التغيير والخروج من “السيستام”. ويكتشف أغلب من صوتوا للرئيس سعيد متأخرين للأـسف، أنهم صوتوا لصورة رئيس لم يجدوها في الواقع المعيش، ولمواقف اختزلتها شعارات فضفاضة ورنّانة ولم تصمد في الواقع ولم تثبت نجاعتها، ولم ينجح الرئيس في تفسيرها والإقناع بها ولم يقدّم مشاريع قوانين بشأنها كما وعد. ومع اكتشاف الحقيقة، نقول دون تردّد أنّه من لطف الله بنا معشر التونسيين، أن لم يكن نظامنا رئاسيا، وأنّ دورية الانتخابات تتيح “سحب الوكالة” وفي الأثناء توجد صيغ دستورية لتصحيح الأوضاع.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 211، تونس في 24 جوان 2021
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25