الانتخابات البلدية: تأجيل البتّ في التأجيل يطرح أسئلة محيّرة
جريدة الرأي العام، العدد 25، تونس في 05 أكتوبر 2017
كان منتظرا أن يتزامن الإعلان عن تأجيل الانتخابات البلدية التي كانت مقرّرة ليوم 17 ديسمبر 2017 بإعلان التوافق على موعد جديد لها في 2018، لكن اجتماع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بالأحزاب السياسية والمنظمات يوم 18 سبتمبر الماضي لم يتوفّق المشاركون فيه إلى إقرار الموعد المقترح من الهيئة في 25 مارس 2018، وتمّ إعلان التواعد بعد عشرة أيام للحسم في الموضوع. لم يحصل ذلك وجرت في النهر مياه جديدة في الأثناء. فبعض تطوّرات المشهد السياسي منذ تأجيل الانتخابات تبعث على التفاؤل بقرب التوافق على موعد جديد وتأمين شروط إجرائها والتعاون على توفير المناخ المناسب لإنجاحها، وبعض المؤشرات الأخرى تحيل على العكس وتطرح أسئلة محيّرة فعلا عن مستقبل تركيز السلطة المحليّة التي تمّ التبشير بها على أنّها من أهمّ مكاسب الجمهورية الجديدة، وتداعيات ذلك على مستقبل المسار الانتخابي برمّته الذي ظلّ من أهم علامات نجاح الانتقال الديمقراطي بتونس.
بدت أوّل المؤشرات الإيجابية بعد عدم دعوة رئيس الجمهورية للناخبين في الآجال القانونية متعلّلا بعدم استكمال البرلمان لأعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وتعيين رئيس لها، حين أدلى الرئيس بتصريح إعلامي مساء انقضاء الأجل المحدّد في 18 سبتمبر 2017 وبعث برسائل تهدئة على أكثر من صعيد. لعلّ أبرزها تثبيت خيار التوافق مع حركة النهضة والذي يعدّ الرئيس أحد أطرافه الأساسية والضامن له، وتجديد دعمه لحكومة الشاهد، وعدم مبادرته باقتراح تغيير للنظام السياسي، والذي يعنينا أكثر هنا، ما يتعلق بالانتخابات البلدية التي أشار إلى أنها ستكون في مارس القادم، كما تمّ اقتراح ذلك أوّل مرّة من هيئة شفيق صرصار. تمّ بعد ذلك تسديد الشغور بالهيئة بالتوافق بين الكتل البرلمانية خلال الدورة الاستثنائية لمجلس نواب الشعب. وكانت الصعوبات لافتة في البحث عن التوافق الذي لا غنى عنه لحصول المترشحين على ثلثي أصوات أعضاء المجلس. لكن الصعوبات بدت أكبر ومُستغربة في انتخاب رئيس جديد للهيئة خلفا لشفيق صرصار المستقيل، رغم أنّ ذلك يتمّ بالأغلبية المطلقة فقط، وتأجّل الحسم بعد فشل التصويت مرّتين. ومن المؤشرات الايجابية أيضا استمرار الحكومة في تهيئة ظروف الانتخابات ومستلزماتها، من ذلك صدور الأوامر الترتيبية المتعلقة بتقسيم البلديات أو تخصيص عطلة للمترشحين أو إحداث دوائر للمحكمة الإدارية وغيرها، وتأكيد المتحدّثين باسم الحكومة على أنّها على استعداد دائم لإنجاح الانتخابات في الموعد الذي يقرّره المعنيّون. ومهما كانت الخلافات أو الصعوبات التي نتفهّمها، فإنّ هدوء الساحة السياسية النسبي بعد تجاذبات الأسابيع الأخيرة وتأجيل الانتخابات، يتيح الفرصة لتفكير هادئ وحوار مسؤول بين مختلف الفاعلين حول حيويّة التوافق قريبا على موعد جديد للبلديات، اعتبارا لأهمية هذا الاستحقاق في استكمال تطبيق الدستور وتفعيل بابه السابع خاصة، وتحسين خدمات المواطنين وبعث رسالة إيجابية للخارج في مضيّ تونس نحو استكمال نجاح تجربتها في الانتقال الديمقراطي.
لكن في مقابل هذه المؤشرات الايجابية ينظر المتابعون بانشغال كبير إلى عناصر أخرى غير مشجّعة أو غير واضحة في المشهد في علاقة بالبلديات. فماذا تعني على سبيل الذكر لا الحصر، تصريحات نوّاب وشخصيات سياسية وإعلامية تنتقد الباب السابع من الدستور المتعلق بإرساء الحكم المحلي وتعتبره خطرا على تفكيك الدولة، بل مؤامرة عليها وتحيّلا على الشعب؟ كما ورد على لسان النائب وليد جلاد في إحدى البرامج التلفزية أو على لسان القيادي بحركة مشروع تونس سمير بن عبد الله في إحدى الإذاعات وغيرهما. وما صلة تلك التصريحات بالمطالبة بتغيير النظام السياسي ومراجعة هذا الباب من الدستور؟ والحال أن التجربة لم تتمّ حتى نقيّمها ومجلة الجماعات المحلية التي تضبط الصلاحيات والعلاقات لم يتمّ إقرارها بعد. وما هي تداعيات خطاب التأجيل الذي يبدو بلا سقف زمني، والذي يستند إلى خلفيات حزبية ومصالح ضيقة على حساب المصلحة الوطنية العامة؟ وهو الموقف الذي يتذرّع بعدم الجاهزيّة والتخويف من فوز ساحق محتمل لحركة النهضة، والذي يضاعف وهم الخوف لدى أصحابه، فشلهم المستمر في بناء تنظيمات حزبية أو ائتلافات انتخابية صلبة، قادرة على المنافسة الجديّة. وقد يكون موعد مؤتمر حركة نداء تونس الذي لم يحدّد بعد ويقال أنّه سيسبق البلديات من العناصر المربكة أيضا على هذا الصعيد. لكن تظلّ أغرب الرسائل والعجائب أن يصرّح البعض بتأجيل البلديات إلى 2019 وربطها بالانتخابات التشريعية والرئاسية حتى لا تؤثر نتائج بعضها على بعض.
لم يعد تأجيل البتّ في تأجيل الانتخابات البلدية مقبولا. فإضافة إلى كلفة التأجيل الباهظة التي تناولناها سابقا، أصبح ذلك خطرا على المسار الانتخابي والسياسي برمّته. فاللجان البلدية التي يرأسها المعتمدون والتي عوّضت النيابات الخصوصية لفترة وجيزة ضمن أجندة زمنية متوافق عليها في أفق 17ديسمبر 2017، لم تعد تفي بالغرض وستزيد في تردّي الخدمات وستكون لها تداعيات سياسية تمسّ من سلامة المسار. كما أن اقتراب الانتخابات البلدية والجهوية من الانتخابات التشريعية والرئاسية سيضغط على هيئة الانتخابات ويربك أداءها. إضافة إلى حالة الإحباط والارتخاء التي يخلّفها التأجيل المفتوح في صفوف من تحمّسوا للمشاركة وتقدّموا أشواطا في تشكيل قائمات المترشّحين للمنافسة كانت على وشك تقديمها لهيئة الانتخابات. ثمّ إنّ الأهمّ من ذلك كلّه أنّ التأجيل بلا موعد محدّد يفسح المجال للشائعات والتخمينات والتشكيك وسيناريوهات المؤامرات، ويعكّر الأجواء ويعطي صورة عن تعثّر المسار السياسي الذي يضاف للمصاعب الاقتصادية والاجتماعية.
نأمل أن تتغلب المصلحة الوطنية العليا ويستحضر مختلف الفاعلين حيويّة إنجاز الانتخابات البلدية في أقرب الآجال الممكنة وأن يتوافقوا على ذلك عاجلا. وفي الأثناء لا بدّ للمجتمع المدني من دور يلعبه على هذا الصعيد ولرباعي نوبل للسلام كذلك ، فالبلديات مسألة مواطنية بامتياز والالتزام بتفعيل الدستور وإنجاز الانتخابات من صميم الديمقراطية والمصلحة الوطنية. وبالتوازي مع ذلك كلّه لا بدّ لمجلس نواب الشعب أن يعجّل في اختار رئيس هيئة الانتخابات ويكون حريصا وواضحا في إقرار مجلة الجماعات المحلية في أقرب الآجال. ولا بدّ للسلطة التنفيذية أن تستفرغ الجهد في ضمان شروط نجاح هذا الاستحقاق الذي ستكسب منه تونس.
محمد القوماني