وإنّها لثورة…

ما حدث بتونس بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 كان ثورة حقيقية فاجأت الفاعلين والمتابعين بالداخل والخارج في نسقها وفي الأثر الذي خلّفته. ونرى أنّ النتائج المتحققة في الواقع بعد الثورة مباشرة، على صعيد السلطة وعلى صعيد المجتمع في تونس، والآثار المترتبة عنها في الخارج، وما لاقته من صدى واقتفاء لأثرها في مصر خاصّة وفي بلدان عربيّة أخرى، تحسم الجدال حول البعد الثوري فيما حصل

لم تأت هذه الثورة صدفة ولم تصنعها أياد خارجية على غرار ما يحاول البعض تسويقه. فهي تتويج لنضالات مريرة تكثّفت خلال العقود الأخيرة واتخذت من مقاومة الدكتاتورية عنوانا وأولوية، بصرف النظر عن تعقيدات اليوميّات الحاسمة في الثورة والمتدخّلين فيها والفاعلين في نتائجها. ولهذا السبب نرى في تركيز بعض الجهات التي انتسبت إلى الثورة مُخاتلة، على أنّ هذه الثورة تلقائية وسلمية (لا قيادة لها ولا دور للأحزاب السياسية فيها، وأنّ مطالبها اجتماعية وتنموية وليست سياسية)  قصدا واضحا إلى محاولة  إفراغها من محتواها السياسي. إذ لا تجوز  المساواة من جهة بين المتسبّبين في الثورة بفسادهم وظلمهم والخاسرين لمواقعهم ومصالحهم في المنظومة القديمة، والمشاركين في الثورة من المُكتوين بنار الاستبداد والفساد، من مختلف الأجيال والاتجاهات الفكرية والسياسية.

فتحرّكات الغضب الاجتماعي بولاية سيدي بوزيد بالوسط التونسي التي امتدّت على مدى الأسبوعين الأخيرين من سنة 2010، أكّدت من خلال تلقائيتها وخلفياتها الاجتماعية وما لاقته من تجاوب في بقية جهات البلاد وما حظيت به من دعم سياسي من المعارضة ومن تغطية إعلامية واسعة، إضافة إلى ما سبقها من أحداث بالحوض المنجمي من الجنوب التونسي في 2008  وبجهات أخرى، استطاعت أن تُسقط بسرعة فائقة الخطاب السياسي الرّسمي آنذاك القائم على جُمل دعائية مفادها :”نجحنا ..ورضي المواطنون.. وشهد لنا العالم ..وسنواصل”.

تدرّج الغضب الاجتماعي (الشغل استحقاق يا عصابة السرّاق) بسرعة إلى المطالبة بإسقاط النظام، (الشعب يريد إسقاط النظام) فجاءت نهايته في أقلّ من شهر. وكان هروب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وبعض أفراد عائلته مساء يوم 14 جانفي 2011، عنوانا لانزياح كابوس الاستبداد والفساد عن تونس. إذ تحرّر التونسيون ودخلوا في أجواء ما تواضعوا على تسميته بالثورة، التي دخلوا في حركيّتها بعد 14 جانفي بأعداد أكبر بكثير مما حصل قبل ذلك.

قبل عموم التونسيين أن يتم التحوّل “الثوري” في إطار “دستور1959” المنقّح مرارا على قياس الحكّام، والذي طالما انتقدته المعارضة واعتبرته غطاء للاستبداد. استمرّ غضب الشباب واحتجاجاتهم وتصاعد وهج الثورة في اعتصام القصبة1 واعتصام القصبة2 وتشكّلت معارضة لهذا المسار في إطار “المجلس الوطني لحماية الثورة”، وكانت من نتائج تصاعد الاحتجاجات والضغوط، استقالة حكومة محمد الغنّوشي (آخر وزير أوّل في حكم بن علي) وإعلان الرئيس المؤقت فؤاد المبزع (آخر رئيس لمجلس النوّاب في حكم بن علي) إلغاء العمل بالدستور وحلّ الهيئات الدستورية القائمة وتحديد موعد لانتخاب مجلس وطني تأسيسي.

تسارعت الأحداث وسط مخاوف أمنية جمّة وتضامن شعبي لافت في حماية الأحياء والممتلكات العامة والخاصة وفي ظلّ غموض في تفسير ما يحدث. غادر نزلاء السجون من السياسيين وأصحاب الرأي خاصّة مواقعهم وعاد المهجّرون تباعا. نشطت الأحزاب والجمعيات بعد إعلان العفو التشريعي العام وإطلاق حرية التنظّم القانوني. تغيّرت ملامح الإعلام الخشبي وارتفع منسوب حرية التعبير إلى درجات قياسية. أسفرت بعض التحركات التلقائية في الإدارة والمؤسسات والمدن والقرى إلى إجبار مسؤولين في العهد البائد على التنحّي تحت شعار “ديقاج” (Dégage بمعنى ارحل) واستبدالهم بآخرين، وشملت العمليّة حتى بعض أئمة المساجد.

انتصب عقب انتخابات 23 أكتوبر 2011 مجلس تأسيسي من المعارضين السابقين في أغلبيته الساحقة، وإن بدا كثير منهم من غير المعروفين، واختار أعضاء المجلس المعارض البارز مصطفى بن جعفر رئيسا له. تمّ تسليم السلطة للفائزين في الانتخابات وسط أجواء لافتة وُصفت بالمتحضّرة والديمقراطيّة. دخل المنصف المرزوقي، المعارض الشرس لبن علي،  قصر قرطاج رئيسا لتونس. ودخل حمادي الجبالي السجين السياسي من حركة النهضة المحظورة سابقا، قصر القصبة، رئيسا لحكومة كان كثير من أعضائها من المساجين السياسيين والمهجّرين والمعارضين البارزين. وكانت كلّ هذه التحوّلات التي حاولنا اختزالها في العناوين الكبرى أدلّة قاطعة على أن تغييرات كبرى قد حصلت في الحكم وفي المجتمع، يحقّ وصفها بالثورة دون تردّد. ثورة شدّت أنظار العالم وشاع خبرها، وسرعان ما انتقل فتيلها إلى ربوع عربيّة أخرى في مصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا، وكان انتصار الثورة في مصر وليبيا خاصة خير سند للثّورة التونسيّة.

تعاقبت الحكومات بعد الثورة، لكن إلى حدّ الآن لا توجد رواية رسميّة لما حدث في يوميّات الثورة وخاصة يوم 14 جانفي وما تلاه. كما لا توجد روايات غير رسميّة موثوق بها ومتفق عليها. مازال التونسيون يتطلّعون إلى الحقيقة حول من قتل الشهداء وأصاب الجرحى؟ ما حقيقة القنّاصة؟ ما الذي دفع بن علي إلى الهروب المفاجئ؟ ما تفاصيل ما جرى بقرطاج في الساعات الأخيرة قبل الهروب وما تلاها من قرارات؟ من كان يدير دفّة الأمور ويقف وراء القرارات الحاسمة؟ ما حجم التدخل الخارجي في الأحداث والقرارات؟ من هي الجهات المتدخّلـــة؟ هل فرّ بن على أم أجبـــر علـــى المغــــادرة؟ ماذا حصل في صفوف قوات الأمن والجيش؟ ما حقيقة محاولات الانقلاب الفاشلــة أو المتضادّة؟ ما جوهر الصّراع داخل النخبة الحاكمة وما هي أطرافه؟ ما سرّ الاعتقالات في صفوف القيادات الأمنية والسياسية؟ هل حصلت صفقات سياسيّة من وراء ظهور عموم التونسيين؟…أسئلة عديدة لم تحسم أجوبتها ومعطيات كثيرة لم يتم الكشف عنها رغم أعمال اللجان العديدة التي تشكلت في الغرض ورغم مرور وقت ليس بالقليل. وهذا ما يزيد في صعوبة فهم ما حدث وفي تعقيدات الجدال النظري حول الثورة التونسية.

نجح هذا الجيل في الثورة على رموز الاستبداد وإبعادهم من رأس الدولة، وحقّق ما عجزت عنه أجيال سابقة، لكنّه فشل إلى حدّ الآن في إسقاط النظام القديم وبناء ديمقراطية فعليّة. وذلك بتضافر عوامل داخلية في هدر الثورة، تتعلّق بسوء تقدير المرحلة وعدم ارتقاء النخب السياسية خاصة، في الحكم وفي المعارضة، إلى مستوى متطلّبات ثورات شعوب المنطقة، وكذلك بسبب عوامل موضوعية إقليمية ودولية في الغدر بالثورة والانقلاب عليها.

 *جريدة الضمير العدد831 بتاريخ 19 ديسمبر 2015

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: