الغرفة السوداء والخطاب الأسود: من الندوة الصحفية إلى الجلسة البرلمانية  

 

تردّدت كثيرا وتريّثت في الكتابة عمّا يُثار منذ مدّة عن “الجهاز السري” لحركة النهضة و”الغرفة السوداء” بوزارة الداخلية ومتعلّقات ما أثارته الندوات الصحفية المتعاقبة للجنة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي منذ 02 أكتوبر الماضي. فهذا ملفّ حسّاس ومعقّد وملغوم، لست مخوّلا للخوض في تفاصيله، وإن كنت معنيا بكشف الحقيقة فيه.  لكن الجلسة العامة للبرلمان للحوار مع وزيري العدل والداخلية يوم الإثنين 19 نوفمبر 2018  بما مثلته من رمزية وبما تضمنته ردهاتها من تدخلات لم تعد تسمح بمزيد  السكوت والانتظار.

فبقدر ما كانت جلسة مشهودة في تكريس الديمقراطية والحوار بين البرلمان والحكومة وتداول الكلمة والتعبير الحرّ عن الآراء المختلفة حول قضية جدالية وحساسة، بمتابعة مباشرة من عموم الشعب والمراقبين دون حدود، كان الخطاب في تلك الجلسة من مختلف الأطراف، ولا أستثني أحدا، سوداويا أكثر من العادة، بل أكثر سوادا من أيّة غرفة سوداء. كان خطابا حربيا في معجمه وخطيرا في وقعه ومنفلتا في تبعاته، ولم يزدني علما شخصيا ولا وضوحا، ولم يساعد على إنارة المتابعين في موضوع  الجلسة. فقد رشق بعض النواب الوزيرين المدعويّين، وتراشق المتحدّثون، وانفضّت الجلسة دون أن يكون للحوار أيّ أثر في تغيير موقف أيّ طرف، ولا في كشف الحقيقة التي يزعم الجميع اقتفاء أثرها.

ندوة 02 أكتوبر والخبط العشواء

استندت لجنة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي على وثائق بملف قضائي تمّ الحكم فيه بإدانة مصطفى خضرالموقوف في نهاية سنة 2013، لتثير شكوكا حول ملابسات تلك القضية، ولتكشف للرأي العام بعض مستندات الملف، وتزعم أن مستندات أخرى تمّ حجزها ولم ينظر فيها القضاء، وهي مُودعة في “غرفة سوداء” بوزارة الداخلية خارج النظام الرسمي للوزارة، بتغطية من جهات تتهمها بالتواطؤ. وتذهب الهيئة إلى أن كشف ملابسات في تلك القضية قد تساعد العدالة على كشف الحقيقة في قضيتي بلعيد والبراهمي.

هكذا تبدو الأمور مفهومة ومشروعة للسان الدفاع، وإن تسرّع في الإفصاح عن ذلك في ندوة صحفية قبل الإدلاء بما لديه من مستجدات لدى الجهات القضائية المتعهّدة بالملف. فالمحاكم أولى بالمرافعات وهي جهة الحكم دون غيرها. لكن الذي بدا غريبا وألقى بشكوك حول الهيئة، هو التسرّع باتهام حزب حركة النهضة وتثبيت تورّطه في اغتيال الشهيدين وصلته بالمجموعات الإرهابية، وحيازة جهاز سري يعمل بالتوازي مع أجهزة الدولة الرسمية ويخترقها، بل يتجسّس على دول عظمى وعلى دول شقيقة. بل هاجمت الهيئة وزارتي العدل والداخلية وحتى رئاسة الجمهورية، واتهمت الجميع بالتواط على إخفاء الحقيقة حفاظا على سياسية التوافق المعتمدة منذ انتخابات 2014. وأعلنت عزمها على إثارة دعاوي قضائية مدنية وعسكرية بتونس وأخرى بالخارج.

قامت القيامة ولم تقعد، وانطلقت المنابر الإعلامية والسياسية في تحليل ما جاء بالندوة، وخطره على الأمن القومي، وروّج  البعض لأحكام مسبقة على النهضة، باعتبارها حزبا سريا ومزدوجا وغير مدني ومورّطا في العنف والإرهاب قبل الثورة وبعدها، والمطابة بحلّه وحظره ومعاقبة المنتسبين إليه… وتوهّم هؤلاء أنّ الحجّة قد قامت على النهضة وأنّ الجميع باتوا ضدها في الداخل والخارج، وأنّ هذا الخصم السياسي العنيد جاءت الفرصة لإنهاء حظوظه في سنة انتخابية مميزة.

سارعت جهات رسمية، لا سيما من وزاتي العدل والداخلية بتوضيح بعض الادّعاءات الواردة في الندوة الصحفية والردّ عليها والدعوة إلى النأي بمؤسسات االدولة عن التجاذبات السياسية. وفُتح تحقيق في الغرض ورفضت المحكمة العسكرية التعهّد بملف ليس من اختصاصها. وبدت ادّعاءات هيئة الدفاع ومن ورائها الجبهة الشعبية، خبطا عشوائيا، فلم يقنعوا غير المقتنعين سلفا من موقع العداء للنهضة.

تعديل في الخطاب ومكر أكبر

لم تستهدف الاتهمات النهضة فحسب، بل مؤسسات الدولة الأساسية،  وقد تدفع بالمسار السياسي كله إلى مربع الاحتراب والفوضى. فأيّ ثقة بالمسار إذا كان الأمن مخترقا وفي يد جهة حزبية؟ وإلى من يتمّ التقاضي إذا كانت السلطة القضائية متحزبة أيضا؟ وأي منطق عقلي يستوعب أن النهضة التي كانت تقود ترويكا الحكم في 2013 اغتالت الشهيدين لتتسبب في سقوط حكومتها؟ ثم اعتقلت مصطفى خضر وأخفت المحجوز الذي يدينها في وزارة الداخلية؟ وكيف حافظت النهضة على التحكّم في وزارتي السيادة بعد استبعادها منهما وفرض استقلايتهما وخسارتها للانتخابات وقيادة الحكم في 2014؟

أدركت لجنة الدفاع خطأها ومأزقها حين خلطت الملفات وبالغت في الاتهامات. فمصطفى خضر محكوم بصفة شخصية والهيئة تتحدث عن جهاز سري للنهضة؟ والأسماء القيادية في النهضة الذين زعمت الهيئة أن خضر على اتصال بهم لا يمكن أن يكونوا جزءا من الجهاز، ولم تُذكر أسماء أخرى غيرهم؟ وما علاقة الجهاز المزعوم والملفات التي يشتغل عليها بملفات سابقة قبل الثورة حول ما يعرف بمجموعة الإنقاذ أو قضية براكة الساحل؟ وهل جهاز للتجسس والاستخبار يكون أداة لتنفيذ الاغتيالات؟ وهل وقع اختراق جزئي لمؤسسات الدولة بعد الثورة أم صارت تلك المؤسسات برمتها متحزبة؟ ومن بقي منها يخدم في أطراف معادية للنهضة؟ وما طبيعة هذه الخدمات؟ وهل ظلت الوثائق بالغرفة السوداء على حالها طيلة السنوات الخمس؟ ومن قدر على حمايتها وله كل السطوة المُدّعاة على المؤسسات لماذا لا يقدر على إتلافها وإتلاف كل ما يقوم حجة لتوريطه؟

هذه الأسئلة وغيرها جعلت هيئة الدفاع تتراجع عن وجهتها الأولى في الاتهام  العشوائي، لتعدل خطابها وتركز جهدها على موضوع الجهاز السري المزعوم، والذي يشمل عددا محدودا من الافراد على رأسهم رئيس حركة النهضة حسب زعمها، أمّا سائر النهضويين فلا علم لهم ولا علاقة بالجهاز. وهذا التراجع فهمه بعض النهضويين خطأ على أنه تمّ تحت التخويف من الملاحقة القضائية. كما حافظت الهيئة على صلة الجهاز بالاغتيلات السياسية للإبقاء على الصفة والصلة، رغم تصريح الأستاذ الرداوي بأنّ حركة النهضة غير مورطة في اغتيال الشهيدين، وأن هيئة الدفاع لا تسعى إلى إدانتها أو منع نشاطها السياسي. وألقت الهيئة شكوكا إضافية على احتمال التلاعب بالمحجوز بالغرفة السوداء، حتى يظل الملف مفتوحا على جميع الاحتمالات.

التراشق البرلماني الذي لم يضف جديدا

لم تضف جلسة  البرلمان ليوم الإثنين 19 نوفمبر 2018 المخصّصة للغرض جديدا، من الجهات الرسمية ولا من الأطراف الحزبية.  فقد قدّم وزيرا العدل والداخلية  بسطة عن مشاغل الوزارتين وأولوياتهما، ودافعا على سلامة الإجراءات في قضية مصطفى خضر والتعامل مع المحجوز، وتعهّدا بالتعاون على كشف الحقيقة كاملة بعد فتح تحقيق من النيابة العمومية وبعد نقل المحجوز بالداخلية إلى القطب القضائي المباشر لقضية اغتيال البراهمي.

لم يكترث النواب بما عرضه وزير الداخلية من أرقام مفزعة  ومعطيات حول الخطر الإرهابي، على أهمية ذلك. فواصل نوّاب الجبهة اتهام الوزارتين بالتواطئ ومغالطة الرأي العام وإخفاء الحقيقة. وواصل نواب النهضة في نفي التهم الموجّهة إلى حزبهم بالجملة ورغبتهم بدورهم في كشف الحقيقة التي تخدمهم قبل غيرهم. وصعّدوا في كشف الخلفيات السياسية لإثارة الموضوع منذ الندوة الصحفية في 02 اكتوبر إلى الجلسة البرلمانية. ولم تخل تدخلات بعضهم من اتهام الجبهة الشعبية بتبنّي العنف وممارسته وتكوين التنظيمات السرية واختراق أجهزة الدولة والتورط في التعامل الأمني مع موضوع النهضة قبل الثورة وبعدها. بل ألمح البعض في إطار المناكفة  إلى فتح ملفات الموت المشبوه للأـستاذ فوزي بن مراد في علاقة بملف الشهيد بلعيد، والشبهات حول ما يعرف بقتل الكاهنة على علاقة بنفس الملف.

وكانت تدخلات نواب حركة نداء تونس أكثر حدّة وإثارة واتهاما للنهضة، فتناولت شبهات تحوم حولها قبل الثورة وبعدها. واقترحت نائبة “الحظر المؤقت لنشاط حزب النهضة في انتظار تأكد إدانته”. وطالبت أخرى بتأمين حياة السجين مصطفى خضر، في تلميح واضح لامكانية تصفيته لطمس الحقيقة. وهكذا بدا الخطاب سوداويا حول حاضر تونس ومستقبلها، وأقرب لتصفية حسابات في ضوء تطورات الأزمة السياسية الاخيرة، منه إلى كشف الحقيقة. وأبانت مختلف التدخلات التي غلبت عليها الحدّة والتشنج عن الطابع السياسي للجلسة التي شهدها عدد محدود من النواب المعنيين بالسجالات، وكانت نسبة الحضور فيها أقل من نصف من حضروا جلسة تزكية التغيير الوزاري قبل أسبوع.

لمصلحة من؟

من الندوة الصحفية إلى الجلسة البرلمانية ازداد المشهد تعقيدا والمتابع حيرة والحقيقة ابتعادا. إذ يبدو الجدال عقيما لا طائل من ورائه حول قضايا تعود في أغلبها إلى ما قبل الثورة، أوكلناها إلى العدالة الانتقالية التي اخترناها وجعلناها الجهة المخوّلة لكشف الحقيقة حولها، أو لا خيار لنا في تعهّد قضاء ما بعد الثورة بها والقبول بأحكامه. ولا مصلحة لمختلف المعنيين في هذا الانقلاب الدراماتيكي في المشهد السياسي الوطني، لتعود المناكفات الحادة والاتهامات الجزاف والحرب الكلامية الحادة والتخوين والشيطنة. والأخطر من ذلك أنّنا نرهن مستقبلنا لماضينا،  فنوشك أن ننحرف بالمسار في السنة الأخيرة من العهدة الانتخابية، فنسمّم أجواء استحقاق تشريعي ورئاسي، ليس المهم فقط أن ينجز في موعده، بل الأهمّ أن يتمّ في أفضل الظروف ويقبل المتنافسون بنتائجه.

ومن جهة ثانية نشدّد مرّة أخرى على أنّ حظّ الوطن يبدو مُغيّبا في هذا الصراع العاري عن الحكم. فبدل أن يكون التنافس الانتخابي هذه المرّة كما ينتظره الناس، على البرامج واجتراح الحلول لمشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية والتربوية المستعصية، ها أنّ الخطاب ينحرف إلى مواضيع تاريخية وأيديولوجية ومسائل خلافية حادّة، تنضح أحقادا وإقصاء متبادلا، لا صلة لها بمعيش الناس ومعاناتهم ومصالحهم. فإذ تهمنا الحقيقة بلا شك، فإنّ معيشتنا تهمنا أكثر، والأمعاء الخاوية لا تفهم المنطق، كما قيل.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 83، تونس في 22 نوفمبر 2018.

https://scontent.ftun7-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/46496037_2199724606717978_7270499009213497344_n.jpg?_nc_cat=100&_nc_ht=scontent.ftun7-1.fna&oh=dfbb4b804c88253cd4138f69b68850bb&oe=5C68FEC7

 

 

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: