الحكومة والأحزاب: من يلوم من؟
جريدة الرأي العام، العدد4، تونس في 27 أفريل 2017
مع ارتفاع نسق الموجة الجديدة من الاحتجاجات الاجتماعية واتساع رقعتها، يتجدّد السؤال عن علاقة الأحزاب بالحكومة المشاركة فيها. ويبدو أن مخيالنا السياسي يعاني من صور نمطيّة للحكم تحجب عنه فهم العديد من المسائل المستحدثة في واقعنا ما بعد ثورة الحرية والكرامة، ومن تلك المسائل العلاقة بين الحكومة وأحزابها. حصل ذلك زمن حكم “الترويكا” ويستمرّ اليوم مع “حكومة الوحدة الوطنية”. فهل تعاني الحكومة من سطوة الأحزاب عليها والتحكم بها؟ أم في كل مرّة تفلت الحكومة أثناء أداء مهامّها من الأحزاب التي تكوّنها، والتي تجبر لا حقا على السير وراءها وتتحمّل نتائج أخطائها؟ وما جدوى الأحزاب إذا لم تسند الحكومة التي تشارك فيها زمن الأزمات خاصّة؟ وماذا يمكن أن نجترح من التوصيفات وأن نطوّر من الرؤى والصيغ للتعبير عن علاقة غير نمطية بين الحكومة والأحزاب المشكّلة لها، في مواجهة أوضاع بالغة التعقيد والصعوبة وفي مرحلة هشة من الانتقال الديمقراطي؟
لم يعد مطلوبا ولا مقبولا أن تكون الأحزاب أداة للحكم أو محكوما بها، على غرار ما كان يحصل مع حزب التجمع المنحل وأحزاب الموالاة زمن حكم بن علي، بما أضعف الديمقراطية داخل تلك الأحزاب وقضى على حيويتها ودورها باعتبارها قوة اقتراح وتأطير، وأفقدها شعبيتها وتأثيرها. فقد ولّى زمن “يا حكومة سير ..سير..واحنا معاك بالبندير”.
وليس مقبولا ولا مجديا أن تفوّض الأحزاب إلى رئيس حكومة اختيار أعضاده وتمنحهم ثقتها في البرلمان لقيادة البلاد، ثم تضلّ وصيّة عليهم وتتدخل بتسيير دواليب وزاراتهم. ولا مقبولا أيضا أن يستمدّ وزير شرعيته وقوّته من الحزب الذي زكّاه وليس من رئيس الحكومة الذي عيّنه ويعمل تحت إمرته.
جرّبت الأحزاب المشاركة في الحكم بعد الثورة صيغا مختلفة فيما يعرف ب “تنسيقية الأحزاب” مركزيا وجهويا أحيانا، لضمان انسجام المواقف والتأثير في مجريات الحكم وتقديم الدعم المطلوب للحكومة. نجحت التجربة بأقدار وتعثرت أحيانا. وكان المعوّل في “حكومة الوحدة الوطنية” بقيادة يوسف الشاهد، التي اتسعت قاعدتها السياسية بعدد الأحزاب المشاركة فيها وتوسّع حزامها السياسي بأطراف “وثيقة قرطاج” من أحزاب ومنظمات اجتماعية كبرى، أن تستفيد من أخطاء الماضي وتطوّر صيغة أفضل للتنسيق مركزيا وفي الجهات، وخاصة في المسائل التشريعية التي سيتم عرضها على البرلمان، أو في مواجهة الأزمات الطارئة، واقترحت وثيقة على الأحزاب في هذا الغرض، لكن لم تتمّ المتابعة ولا التفعيل، ولم يحصل واقعيا ما تم التفكير فيه.
ولا نبالغ إذا قلنا أن الحكومة الحالية بعد أكثر من ستة أشهر عن تشكلها، تعدّ الأضعف في التواصل مع الأحزاب والتشاور معها، سواء من المشاركة في الحكومة أو من غيرها. ولا عجب إذا أن تجد هذه الحكومة من الانتقادات تحت قبّة البرلمان أو في مجالس الأحزاب أو في وسائل الإعلام، ما لم تجده حكومات من قبلها. ومن غير المنطقي أن تطلب الحكومة السند من الأحزاب أو المنظمات في مسائل لم تستشرهم فيها. ولنا في تعيين الولاة ومشروع ميزانية 2017 وفي التحوير الوزاري الأخير أمثلة بالغة الدلالة. وحق التساؤل هل تشارك أحزاب الائتلاف فعليا في رسم سياسات الحكومة وتحديد أولوياتها ومبادراتها التشريعية؟ وإلى أيّ مدى تبدي آراءها في التعيينات على رأس مختلف مواقع المسؤولية في الدولة؟ وهل يمكن أن تساند الأحزاب خيارات أو إجراءات لا تستشار فيها؟ وهل يظل أعضاء الحكومة متواصلين مع أحزابهم ومعبّرين عنها بعد ترشيحها لهم في مناصبهم؟
وإذا عدنا إلى موجة الاحتجاجات الاجتماعية الجارية، نجد أن الحكومة تقرّ بشرعية مطالب التنمية والتشغيل في الجهات الأكثر تهميشا خاصة، وبشرعية التحركات السلمية، فلم اللوم إذن على مشاركة منخرطي الأحزاب وأنصارها في تلك الاحتجاجات. والحال أنهم من أبناء تلك الجهات ومن الموجوعين بالمعاناة. وهل الأفضل أن تشارك أحزاب الإئتلاف الحاكم في التحركات المشروعة وتساهم في ترشيدها وتعقيل مطالبها ووسائلها واعتماد التواصل مع السلط المعنية للبحث عن حلول ممكنة، أم الأفضل أن يدسّ أنصار الأحزاب رؤوسهم في الرمال وأن ينفصلوا عن أهاليهم وقواعدهم الانتخابية وأن يتركوا الساحات للمتهوّرين أو المتربّصين أو أصحاب النوايا والأجندات السيئة، الذين لا يغيبون عن تلك التحركات، إذا لم يكونوا أحيانا المخطّطين لها والمأججين للهيبها.
لا خلاف على أنّ وضع الأحزاب المشاركة في الحكم غير وضع أحزاب المعارضة، وأنّ لواجب التضامن الحكومي مقتضياته في الخطاب والممارسة. لكن لا تعارض بين دعم الحكومة في مؤسسات الدولة، خاصّة في البرلمان، بالمصادقة على مشاريعها بعد التعديلات المستوجبة، أو منحها الآليات الضرورية لإنفاذ برامجها وتسهيل مهامها، وبين أخذ مسافة من مؤسسات الأحزاب مع سياسات حكومية ما أو إجراءات تتخذها، أو استحثاثها على أمور أو دعوتها إلى الاستجابة لمطالب ما. فلا بد لمخيالنا السياسي أن يستوعب مقتضيات الثورة والتسيير الديمقراطي للدولة وللأحزاب، وهي مسائل جديدة علينا وليس من اليسير التأقلم معها.
لقد جربنا خلال ست سنوات ونيف بعد الثورة تغيير الحكومات كل عام تقريبا، وجربنا المتحزّبين والمستقلين والبين بين، والمحاصّة والكفاءات… لكن تبيّن أن تغيير الحكومات لم يغيّر المسارات ولا النتائج ولم يفض إلى الحلول المرجوة للمشكلات. لذا آن الأوان أن نفكّر جيّدا في جدوى الاستقرار السياسي بإعطاء الفرصة لمن منحهم نواب الشعب ثقتهم، وبعث رسائل إيجابية للمتابعين والمستثمرين خاصة. فالنقد والاحتجاج والضغط من أجل الإصلاح وتحسين المردود وتحقيق المطالب المشروعة، مكاسب أتاحتها الثورة ولا تراجع عنها، لكنها لا تقترن ضرورة بمطلب إسقاط الحكومة. ناهيك أن الحكومة الحالية على أخطائها، لا ننكر عليها تقدّما ملحوظا في تحقيق بعض ما تعهدت به. وسنظل نذكّر في كل مرّة أنّه مهما قست الظروف وتعثّر مسار الثورة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، فلا نستسلم لخطاب التيئيس والإحباط بأيّ حال، الذي لن يخدم قضية شهداء الثورة وجرحاها، ولا حقوق المضطهدين والضحايا ولا مطالب التشغيل والتنمية العادلة. فكثيرا ما يكون خطاب التيئيس والعدمية تمهيدا للاستسلام للاستبداد.