وفود تونسية لدعم بشار.. العناوين سورية والأجندة تونسية
جريدة الرأي العام، العدد 18 ، تونس في 10 أوت 2017.
تعدّدت زيارات وفود تونسية غير رسمية إلى سوريا لتقديم الدعم السياسي الواضح لبشار الأسد، الذي أعرب لهم عن سعادته بهم. وتكثّفت الرحلات خلال السنة الأخيرة خاصّة، تحت عناوين مختلفة إعلامية ومدنية ومهنية وجامعية ونقابية وبرلمانية وغيرها، ولأهداف معلنة في تحسين العلاقة بين الشعبين والدولتين، لتفرض نفسها موضوعا للمتابعة والجدال، ولتطرح أسئلة عديدة عن التطوّرات الحاصلة في الميدان، وطبيعة الزيارات وتركيبة الوفود وحجمها والجهات التي تقف وراءها ماديا وسياسيا والأجندة التي تخبئها والتداعيات المنتظرة لها على الساحة الوطنية وعلى مستقبل العلاقات التونسية السورية؟ لكنّ المؤكد الذي لا يخطئه الفهم الأعمق لما وراء الفرقعات الإعلامية الظاهرة، أنّ العناوين سورية والأجندة تونسية، وهذا مدار اهتمامنا.
علّق المفكر السوري برهان غليون، على الزيارة مطلع هذا الشهر، التي أدّاها وفد الاتحاد العام التونسي للشغل بقيادة بوعلي المباركي لدمشق، والتقى فيها بشار الأسد وعددا من أركان نظامه، بقوله: “”ما الذي يدعو منظمة نقابية وطنية إلى أن تتعاطف مع الجلاد بدل أن تتعاطف مع الضحية وتناشده المزيد من القسوة والعنف بدل العمل على وقف العنف والسعي إلى إيجاد تسوية سياسية؟ بالتأكيد ليست “انجازات” الأسد “الوطنية” في سحق الانتفاضة الشعبية أو تدمير المدن السورية وتشريد أهلها أو استدعاء التدخلات الأجنبية أو وضع سورية تحت الوصاية الروسية. لا يفسر مثل هذا السلوك سوى مناخ الحرب الأهلية المدمّرة الذي تعيش فيه بعض النخب العربية، ومن روح التشفي والانتقام التي تحركها وتجعلها على استعداد لتجاوز جميع الخطوط الحمر الأخلاقية والسياسية والإنسانية”. وكأنّ غليون يحيلنا مجدّدا على كتابه الذي نشره في ثمانينات القرن الماضي تحت عنوان “اغتيال العقل: أو محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية “. فوفد اتحاد الشغل، ومن قبله وبعده وفود تونسية من إعلاميين ومن جامعة الزيتونة ومن جمعيات مدنية ومهنية ومن برلمانيين وغيرهم، لم تخف رسالتها السياسية في دعمها لبشار ونظامه، كما تفصح عن ذلك تصريحات رؤسائها أو بعض المشاركين فيها، والمنشورة على مواقع النيت مع صورهم. لكن بشار الذي قمع ثورة شعبه والمتّهم بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، يجعل تلك الوفود موضوع إدانة من قبل أحزاب وجمعيات وشخصيات مناهضة لبشار، بل يجعل المشاركين فيها عُرضة لتنديد وتشهير يتجاوزان الحدود أحيانا، فهم “شُّبيحة” و”عملاء” و”خونة” و”شركاء في الجريمة”… وهذا ما يكشف دون لبس جوانب من الحرب الأهلية غير المعلنة في صفوف النخب العربية، والتي حلّلها برهان غليون في كتابه المذكور وأشار إليها في تعليقه. ولعلّ تصريح الأسعد اليعقوبي أحد أعضاء وفد اتحاد الشغل مثال دالّ في ذلك بقوله:”لم نأت لنساعد سورية وإنما لنشكرها جيشا وشعبا وقيادة.. لأنكم خضتم الحرب عن كل أحرار العالم وعندما تتقدمون خطوة يتقهقر دعاة الإرهاب لدينا” وأضاف”لو سقطت سورية لنُصبت لنا المشانق في تونس”. فالخلاف في ظاهره حول ما يجري في سوريا، لكنه في الحقيقة تصفية حسابات داخلية وجزء من المناكفة الأيديولوجية والسياسية والصراع المحتدم في تونس وفي كل قطر عربي. وهذا ما يعطي للزيارات والجدال حولها أبعادا أعمق.
يتأكّد الآن أكثر من أيّ وقت مضى أنّ حربا دولية بالوكالة شهدتها سوريا ويدفع شعبها تكلفة باهظة لها، بعد أن تمّ تحريف ثورته السلميّة في سياق التآمر على الربيع العربي الذي انطلق مبكرا بعد مفاجأة نجاح الثورة التونسية وتداعياتها. وكان مسار الحرب الضروس ببلاد الشام عنوانا بارزا على تغيّر المعادلات الدولية والاقليمية. فلم يتيسّر لمن انخرطوا في تلك الحرب، من أيّ موقع كان وتحت أيّ عنوان، أن ينفّذوا أجنداتهم بالسرعة ولا بالنتيجة التي أرادوها. وبصرف النظر عن تلك الأجندات التي ليست موضوع اهتمامنا هنا، فإنّ المحصّلة من سجالات المعارك العسكرية والإعلامية والسياسية وغيرها، في الحرب الدائرة بسوريا، أنّ نتائجها لم تؤل لأيّ طرف إلى حدّ الآن. وإنّ من دلالات تعقيدات الملف السوري، أنّ المتابع الذي ليس طرفا في الحرب هناك، ولا يهمّه سوى استتباب الأمن ونشر السلام وضمان مصلحة عموم الشعب السوري صاحب السيادة الحقيقية والجهة المعنية الأولى، لا يتمنى الانتصار لأيّ من الأطراف المتحاربة. لكن في هذه المرحلة وبعد أن استمرّت الحرب لنحو سبع سنوات، وقد جرت مياه كثيرة وتغيّرت معطيات كثيرة في الميدان، بل سالت دماء قانية وحُصدت أرواح زكية وسقط جرحى وشُرّد الناس من ديارهم بالملايين، ودمّر الوطن وانهارت الدولة… حتّى أنّ المفكر السوري الكبير الطيب تيزيني الذي زار تونس السنة الماضية، كان يغالبه البكاء المرّ كلما همّ بالحديث عن حال بلده،ّ وتلك معطيات تستوجب في حدّ ذاتها، إعادة نظر وتفكير وتعديل للمواقف تجاه ما يجري. فلم يعد بدّ من الدعوة والدفع باتجاه حلول سياسية سلمية وتسويات ترتضيها جميع الأطراف السورية بما ذلك بشار ونظامه، مهما كانت السرديات حول ما حصل. ولم يعد مقبولا التمترس في مربعات تغيرت سياقاتها. فلكل مرحلة مقتضياتها وللسياسة إكراهاتها. فبشار ليس الحاكم الوحيد المتّهم بالقمع والقتل. ومن بعد الدرس السوري سنحتاج لحوار أعمق وتسويات أشمل بين النخب العربية المتقاتلة على أكثر من صعيد.
ومن جهة أخرى، قد نتفهّم الاختلافات في التقدير والمواقف السياسية، لكن ذلك لا يبرّر قلب المفاهيم والمغالطة والتنكّر للمبادئ والشعارات المعلنة. فمن الغريب ألاّ نسمع من الوفود التي تتسابق للقاء بشار، نقدا له أو دعوته للصّلح أو الاعتذار أو تحريضا له على الديمقراطية أو التشجيع على حلّ سياسي سلمي تفاوضي…فكيف على سبيل المثال لاتحاد شغل تونسي حائز على جائزة نوبل للسلام أن ينحاز بالكامل لبشار المتّهم بجرائم حرب، ويتجوّل وفده في المدن المدمّرة وخاصة حلب التي لا تخفى جرائم النظام السوري بها، دون تبرئة أطراف الجريمة من الآخرين بالطبع، ولا يُدين الوفد مختلف الأطراف أو يدعو للسلام المتأكد، بل يصرّح رئيسه المباركي أنّ الوضع الحياتي في سوريا”عاديّ جدّا”، وفي تصريح آخر شبه الشعور بالأمن في سوريا بالوضع في تونس. وأشاد كثيرون بحكمة بشار وصلابته وحربه على الإرهاب وانتصاراته في تجاهل فاضح للبراميل المتفجرة والكيمياوي ودكّ المدن وقتل الأطفال والنساء…
وإذا كان المرجوّ من الزيارات تسهيل تطبيع العلاقات الديبلوماسية والتعاون الأمني والقضائي على كشف شبكات التسفير والتنظيمات والعناصر الإرهابية كما تدّعي التصريحات، فلماذا لا يتمّ ذلك بالتنسيق مع السلطات الرسمية التونسية؟ فمتى كانت الاتصالات بالمخابرات الأجنبية تحصل بهذا الشكل ومتى كانت المسائل الأمنية تُدار بمثل الفرقعات الإعلامية للنائبة ليلى الشتاوي؟ وأيّة مصداقية لسيناريوهات مُسبقة واتّهامات جاهزة تبحث عن أدلة ضمن أجندة سياسية لإدانة خصوم والتآمر عليهم مع جهات لا تخفي عداءها؟ وقد صرّح وزير الخارجية التونسية مرارا أنّ وزارته لا علم لها ولا علاقة بتلك الزيارات “وأنّ العلاقات الدبلوماسية مع سوريا ليست على مستوى السفراء لكنها على مستوى قنصلي، وهي لم تنقطع أبدا (…) وأنّ الوضع في سوريا ميدانيا لا يشهد تقدما يستوجب تطوير العلاقات الدبلوماسية معها” مستغربا الدعوة إلى تعييين سفير تونسي هناك رغم أن الحكومة السورية لم تطلب ذلك وهي راضية عن الوضع الدبلوماسي الحالي. فهل صارت الوفود (وهي تونسية فقط) ملكيّة أكثر من الملك؟ وكان البرلمان، قد أسقط خلال الشهر الماضي مشروع لائحة لبعض الكتل تتضمّن المطالبة بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، والتي هي من مشمولات رئيس الجمهورية، ولا نستبعد أن يأذن بتطويرها متى استلزم الوضع ذلك.
ختاما إذا كانت المنظمات والجمعيات والأحزاب والجهات المشاركة في الوفود حريصة على خدمة الشعب السوري، فلماذا لم نر لها مبادرات تُذكر في استقبال المهجّرين السوريين إلى تونس أو تنظيم حملات دعم لهم أو انتشالهم من التسوّل والحرمان ومغالبة ظروف الحياة القاسية بعيدا عن وطنهم وأهلهم؟ وإذا كان العنوان السوري مجرّد غطاء لحسم خلافات تونسية، فإنّ الأجندة تبدو مفضوحة، وأنّ المروءة والنجاعة تقتضيان ترك المغالطة ومباشرة الخلافات بما يساعد على حلّها وليس مزيد تعقيدها.
محمد القوماني