هل يُتيح مشهد الرّمال المتحرّكة الاستمرار في حالة الإنكار؟
بعد شهر ونصف من الزلزال السياسي لمساء 25 جويلية 2021 يكتنف الغموض المشهد السياسي التونسي. فلم تتبيّن بعد الارتدادات الأولى للزلزال. إذ شكّلت القرارات الرئاسية بتعليق اختصاصات البرلمان وتعطيل أشغاله ورفع الحصانة عن النواب، التي تم تمديدها إلى “إشعار آخر”، أهمّ عنوان للمرحلة الجديدة. وهي القرارات المعلنة في الساعة الأولى، التي لم تتعزّز ولم تتعدّل مع مرور الأيام ثقيلة، ولم تحسم الأمور نهائيّا. ولا يخطئ المتابع للأحداث ملاحظة فرملة واضحة للاندفاع الرئاسي المسجّل مساء إعلان القرارات. ومع الاستفاقة التدريجية من الصدمة و”السكرة” داخليا، وتصاعد الاهتمامات و”الضغوط” خارجيا، واستمرار غموض رسائل رئيس الجمهورية وخطّته، وهو المجمّع للسلطات والمتفرّد بالقرار تقريبا، تظلّ سيناريوهات مختلفة إلى حدّ التناقض مُحتملة. ولا نبالغ حين نصف المشهد بأنّ رماله متحركة، مع شعور قويّ بأن لحظة الحسم لا تبدو بعيدة. لكن الذي نودّ التوقّف عنده في هذا الصدد هو التنبيه إلى استمرار حالة الإنكار المُتسربلة بضبابية المشهد لدى مختلف الأطراف، وخطر ذلك الإنكار على تلك الأطراف أساسا وعلى مستقبل المشهد السياسي عموما.
تختلف السرديات حول عشرية ما بعد ثورة الحرية والكرامة، كما يستمر الخلاف حول الثوة نفسها وسردية أيامها وتقاطعاتها. وتُبنى سرديات جديدة حول ما حصل يوم 25 جويلية 2021، لكن يُفترض ألاّ نختلف حول ما مثّله من منعرج حاسم في مسار ما بعد 2011. ولن يساعد بالمرّة على فهم ما حصل، استمرار إنكار الإقرار بحالة الانسداد التي آل إليها المسار، والحلقة المغلقة سياسيا ودستوريا التي تردّت إليها الأزمة المركّبة والمتراكمة والمتشابكة، مما استوجب تدخلا غير عادي، على نحو تفعيل الفصل 80 من الدستور واللجوء إلى إجراءات استثنائية. فحجم الأخطاء والمخاطر خلال العشرية بات مخيفا. ومنسوب صبر الناس كاد ينفد. والأداء الهزيل لحكومة مشيشي لم يعد يقبل الاستمرار. وحالة التعطّل التي وصلتها البلاد بسبب مناكفات مراكز السلطة في قرطاج والقصبة وباردو، والمشهد البرلماني المرذّل، حالة سريالية خانقة. والأهم من ذلك كله تهديد حياة التونسيين بفيروس كورونا القاتل وشبح الإفلاس المخيّم على البلاد الذي يرفع نسب التشاؤم. وهذه الأسباب أساسا وغيرها، تفسر تقبّل فئات هامة من الشعب للقرارات الرئاسية مساء 25 جويلية.
لقد أطاح زلزال 25 بمنظومة ما بعد 2011 رمزيا على الأقلّ. وتقاطعت أسباب وأجندات داخلية وخارجية، وإن اختلفت دوافعها وغاياتها، في الانخراط في هذا المنعرج الحاسم. فالمشهد السياسي المتشظّي والمُرذّل، ومنسوب الحريات المفرطة الذي بات يفتح على الفوضى ويهدّد الاستقرار والاقتصاد والمجتمع، ومأزق النظام السياسي والدستور الذي لم يكتمل تنزيله بعد 7 سنوات، وحالة الاحتقان الشعبي التي تفتح على أخطار تهدّد كيان الدولة، وغيرها من المؤشرات التي يطول تعدادها ولا يسمح السياق بشرحها، كانت مقنعة في التفهّم الداخلي والخارجي لما أقدم عليه الرئيس قيس سعيد. ومن هذه المنطلقات ندعم شعار “لا للعودة إلى الوراء”. ولا خيار لمن شاركوا من مواقع الفعل والتأثير في الحكم أو في المعارضة، وخاصة ممن منحهم الناخبون مراتب أولى، إلاّ الخروج من حالة الإنكار وتفهّم ما حصل بدورهم، وممارسة النقد الذاتي المعمّق للوقوف على الأخطاء والاعتذار عنها وتصويب البوصلة. فبقدر الثقة الممنوحة والآمال المعلّقة كان الغضب، وبقدر النقد والاعتراف قد يكون الصفح. وتلك قاعدة التعاقد الأساسية بين الناخبين وممثليهم.
وفي الجهة الأخرى من المعادلة، لا مصلحة ولا إقناع في استمرار إنكار أنّ اللجوء إلى الفصل 80 من الدستور تمّ بصيغة تعسّفية. فقد حصل خرق جسيم للدستور لينقلب رئيس الجمهورية على رئيس الحكومة بعزله وعلى رئيس البرلمان بتعليق صلاحياته ويعطل مجلس نواب الشعب ويرفع الحصانة على أعضائه بما لا يتيحه بأيّ وجه من الوجوه الفصل 80، وبما لم يُقنع به الرئيس سعيد الداخل والخارج من غير مؤيديه. وأنّ تأييد خرق الدستور لتصفية خصوم سياسيين مهما كانت الخلافات معهم، كشف عن ضعف فادح للثقافة الديمقراطية في أوساط عموم الشعب وخاصة النخب الناشطة في الحياة العامة وهشاشة في التقيد بمقتضياتها. فالمناكفات السياسية و”الأحقاد الأيديولوجية” بلغت مداها وأعمت العيون وحجبت العقول وأسقطت ورقة التوت. ويبقى أخطر ما يبعث به للأجيال الجديدة زلزال 25 جويلية وما صاحبه من مواقف مخيفة، ضعف الثقة بالتوافق والخيار الديمقراطي والجنوح إلى القوة وربما العنف لحسم الصراعات مستقبلا.
الخطر كل الخطر نراه في حالة ترقّب مختلف الفاعلين لمشهد تبدو رماله متحركة، والتعويل خاصة على نتائج تدخلات خارجية، غير مسبوقة، على غرار بيان سفراء السبع دول الكبرى الأخير، والزيارات المكوكية لعدد هام من الديبلوماسيين والوفود لتونس بعد 25، يُختلف في تأويل رسائلها حسب المواقع. فليس من مصلحة التونسيين في شيء إقحام بلادهم في لعبة الصراعات الإقليمية والدولية. وتكفي دروس من قبلنا ومن حولنا في النتائج الكارثية لهذه المسارات. وكلما ضعف الحوار الداخلي أو سُدّت أبوابه زادت التدخلات الخارجية. ومن نافلة القول التذكير بضياع الجهد والوقت في تجريب المجرّب الذي تأكّد فساده وفشله. فطريق الإقصاء والتنافي والاستئصال مسدود، ومحفوف بالاستبداد، والظلم، والخراب. والتجارب في بلادنا وفيمن حولنا عديدة. ولا عودة إلى الوراء بهذا المعنى أيضا.
ما نروم تأكيده في كلمات في ختام هذه المقدمات. هو أنّ الطريق الوطنية السريعة لمستقبل أفضل ولتجاوز أزمتنا السياسية التي لم تنجح الإجراءات الاستثنائية في حلّها، هو استئناف المسار الديمقراطي المعطّل منذ 25 يوليو والعمل على تصحيحه. ومشاكلنا نحلها بأيدينا لا بأيدي عمرو.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 221 تونس في 09 سبتمبر 2021
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25