لمصلحة من ما يجري سياسيا ؟ ومن المسؤول؟
رقص كثيرون، من مواقع مختلفة ومتضادّة أحيانا، طربا لإعلان رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي نهاية التوافق مع الشيخ راشد الغنوشي وحركة النهضة. وبعد أن عرضنا في مقالات سابقة مزايا التوافق على البلاد والمسار الانتقالي وعلى حزبي النداء والنهضة ومن حالفهما، وإلى صمود هذا الخيار لسنوات في وجه المؤامرات والإغراءات، وحذرنا من كلفة اللاتوافق، نروم في هذا المقال تدوير زوايا النظر في تبعات إنهاء التوافق من خلال تطوّرات المشهد السياسي الأخيرة، وتدحرجه التدريجي من الأجندة الوطنية الحارقة والجامعة الى أجندة الاستقطاب والاحتراب. فلمصلحة من يتمّ هذا التدحرج الخطير؟ ومن المسؤول عن ذلك؟ وهل لا تزال فرص للتدارك؟
تدحرج
انتهت السنة السياسية المنقضية بإنجاز الانتخابات البلدية وتركيز مجالس السلطة المحلية، وكانت الأنظار تتجه إلى إنجاح هذه التجربة الجديدة في الحكم اللامركزي والحوكمة التشاركية، في سنتها الأولى، لعلها تكون دافعا لإعادة الثقة وتشجيع الناس على المشاركة، بعد خيبة أمل غير خافية في نتائج الحكم المركزي. وكان الاشتغال حثيثا في وثيقة قرطاج2 على إجراءات عاجلة اقتصادية واجتماعية وسياسية، لإنقاذ وضع صعب بدأت تتكشّف مخاطره.
تعذّر الاتفاق في ما يعرف بالنقطة 64، حول طبيعة التغيير الحكومي المطلوب لضمان إنجاح “البرنامج الإنقاذي”، فكان تعليق العمل بوثيقة قرطاج2. فشلت اللقاءات الثنائية ومحولات تطويق الخلاف، فكان الوصول إلى نقطة اللاّعودة. وحين طالت الأزمة وصار الصراع مكشوفا بين رأسي السلطة التنفيذية في قرطاج والقصبة، ويئس رئيس الجمهورية من تغيير حركة النهضة لموقفها الرافض لتغيير جذري للحكومة، بما يعني ممارسة الممانعة تجاه إرادته في تغيير رئيس الحكومة يوسف الشاهد، أعلن نهاية التوافق.
تطوّرت الأحداث دراماتيكيا بعد ذلك، وانقلب المشهد السياسي كليا، ليتدحرج تدريجيا وبسرعة غير خافية، من الأجندة الوطنية الحارقة والجامعة الى أجندة الاستقطاب والاحتراب. ونكتفي باستعراض أهم مؤشرات ذلك الانقلاب في المشهد.
1 ـ سياسة الملفات وعودة الاستقطاب والاحتراب:
لا تخفي بعض الأطراف اتّهام الشاهد باستغلال النفوذ والضغط على بعض النواب بملفات (دوسيات) لانضمامهم إلى كتلة الائتلاف الوطني المحسوبة عليه، أو ابتزاز بعض رجال الأعمال، أو التأثير في المسار القضائي أو السيطرة على بعض المواقع الإعلامية، لتسريع خدمة مشروعه السياسي الشخصي. وحين غيّر سليم الرياحي مؤخرا موقفه من الشاهد، وقرّر حزب الاتحاد الوطني الحرّ الاندماج في حزب نداء تونس، انتقل نفس الاتهام إلى الرئيس الباجي قائد السبسي، الذي يؤكد بعض خصومه على أنّه صار يقود بنفسه مواجهة الشاهد والنهضة ومحاولة ترميم النداء واستعادة موقعه المتقدم في المشهد.
وفي الأثناء وبعد أسبوع من إعلان نهاية التوافق يوم 24 سبتمبر 2018، سارعت الجبهة الشعبية، إلى عقد ندوة صحفية وتوزيع وثائق من ملف قضائي محكوم فيه منذ سنة 2013، ضدّ شخص وحيد وهو المدعوّ مصطفى خذر، لإثارة شبهة رعاية حركة النهضة لجهاز سري والتورط في الإرهاب واغتيال الشهيدين بلعيد والبراهمي. وكانت الندوة الصحفية ليوم 2 أكتوبر 2018 منطلقا لحملة إعلامية واسعة تستعيد إثارة نقاش حول اتهام النهضة باختراق أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية قبل الثورة، وارتكاب أعمال عنف، بما يشكك في مدنيتها، ومحاولة حشد الدعم للمطالبة بإعادة النظر في الملف القضائي والوثائق المنشورة، وكشف الحقيقة، وحلّ حزب النهضة إذا تأكدت إدانته.
وفي المقابل تحرّكت فضاءات إعلامية أخرى، محسوبة على النهضة وأنصارها، خاصة في العالم الافتراضي، لمهاجمة الجبهة الشعبية والتشكيك في مصداقية رموزها وفي ديمقراطيتها. فهي متهمة بالتعاون مع ألأجهزة الأمنية ضدّ الإسلاميين قبل الثورة وبعدها، والتنظير لاستئصالهم، بل إنّ بعض فصائلها من صناعة الأجهزة الأمنية أصلا. وهي تحاول بعد الثورة اختراق المؤسسة الأمنية عبر نقاباتها وتسريب وثائق رسمية وتزوير بعضها. وترتفع وتيرة الحملة ضد الجبهة فتتم استعادة معارك قديمة حول “الكاسات” الشهيرة المزوّرة والمنسوبة للشيخ عبد الفتاح مورو التي حكم القضاء بإدانة مروجيها. كما يتم استعادة الماضي قبل الثورة حول الأيديولوجية الثورية لليسار ومعجم العنف الثوري وتكوين التنظيمات السرية والانخراط في بعض التنظيمات المسلّحة وتدرب البعض على السلاح وما إلى ذلك من الملفات المعقدة التي لها سياقاتها الخاصة. ويتوسع الجدال إلى الفصائل القومية وتجاربها أيضا في السرية وتكوين الأذرع الأمنية والعسكرية واعتماد الانقلابات في تجاربها في الحكم.
2 ـ استحضار الماضي الاستبدادي وخطاب المظلومية:
لا يمكن بحال استعادة ملفات العمل السري ومقتضياته وآلياته، دون استعادة الماضي الاستبدادي وانتهاكاته وجرائمه في حق المعارضين من مختلف المدارس الفكرية والتنظيمات السياسية. فينبري كل فريق لإظهار تضحياته وتعداد شهدائه واستعراض سردياته. وهنا يبدو الإسلاميون بلا منازع في حجم الظلم الذي سُلّط عليهم والتكلفة الباهظة لصمودهم واستمرارهم على مدى أكثر من أربعة عقود ليكونوا الطرف الأقوى في الحاضر. وتكفي الشهادات العلنية بهيئة الحقيقة والكرامة حجة بالغة في هذا المضمار، خاصة ما تعرضت له نساء النهضة من تنكيل وانتهاكات أبكت كثيرا من المشاهدين عند سماعها وكشفت وجها قبيحا لدولة الاستقلال وتوجهاتها الحداثية. واتهمت مسؤولين في الدولة تمت إحالة ملفاتهم على القضاء مؤخرا.
3 ـ إضعاف الأحزاب وترذيل العمل السياسي:
كان حزب نداء تونس الفائز في انتخابات 2014 والممسك بالجزء الأكبر من السلطة، أهم ضحايا الأزمة السياسية الأخيرة. فقد تفككت قيادته وكتلته النيابية وعرف موجة من الاستقالات والاتهامات المتبادلة وضعف وزنه بما كان ينذر بانهياره السريع. واتّهم يوسف الشاهد رئيس الحكومة وأحد عناصره القيادية، بتدبير انقلاب ناعم على قيادة الحزب وعلى الحكم. واشتغل الإعلام على هذا الصراع والتغيّر في المواقع والمواقف، وعلى التصريحات والاتهامات المتبادلة، لترذيل العمل السياسي، ووصف السياسيين بالانتهازية وخدمة المصالح الشخصية، ولو ببيع الذمم وتزييف إرادة الناخبين. وفي سياق التعميم وبإرادة مضمرة، يتمّ ترذيل الأحزاب عموما، التي تعاني من ضعف بنيوي ومشاكل جمّة. وحين تضعف الأحزاب التي تعد الفاعل السياسي الرئيسي، يفسح المجال لفاعلين غير مرئيين، على غرار المال السياسي واللوبيات والمؤسسات الإعلامية وحتى الأطراف الخارجية، فيتعقّد المشهد ويصعب التكهّن بمستقبله.
أين كنا وأين أصبحنا؟
تلك عيّنات لا يتّسع المجال لتعداد أمثلة أخرى منها عن تردّي الخطاب السياسي إلى مربّعات خلنا أنّنا تجاوزناها. فهي تهديد مباشر للمصالحة الوطنية الشاملة التي نعدّها شرطا لنجاح المسار الديمقراطي، والتي كان قطع أشواط على طريقها كفيلا بتحقيق الاستثناء التونسي وسط تعثّر مسارات بقية الثورات. وهي جدال لا طائل من ورائه حول قضايا أوكلناها إلى العدالة الانتقالية التي اخترناها وجعلناها الجهة المخوّلة للخوض فيها وحسمها. والأخطر من ذلك أنّنا ننكث غزلنا من بعد جهد، فنهدّد مكاسب تحقّقت خلال السنوات الماضية، من بعد حوار وطني شاق وتوافق سياسي استثنائي ومباركة اقليمية ودولية، وجائزة نوبل للسلام يتيمة في رصيدنا، ونهدّد مستقبلنا بالانحراف بالمسار في السنة الأخيرة من العهدة الانتخابية، فنسمّم أجواء استحقاق تشريعي ورئاسي، ليس المهم فقط أن ينجز في موعده، بل الأهمّ أن يتمّ في أفضل الظروف ويقبل المتنافسون بنتائجه.
ومن جهة ثانية يبدو حظّ الوطن مغيّبا في مثل هذا الصراع العاري عن الحكم. فبدل أن يكون التنافس الانتخابي هذه المرة كما ينتظره الناس، على البرامج واجتراح الحلول لمشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية والتربوية المستعصية، ها أنّ الخطاب ينحرف إلى مواضيع تاريخية وأيديولوجية ومسائل خلافية حادة، تنضح أحقادا وإقصاء متبادلا، لا صلة لها بمعاش الناس ومعاناتهم ومصالهم.
أمل
لا مصلحة للوطن ولا لأيّ طرف وطني فيما يحصل سياسيا في هذه المرحلة. ولا فائدة تُرجى من تبادل الاتّهامات في تحميل المسؤولية. ولا بديل عن خطاب التعقّل والتهدئة وخفض التشنّج. ولن تعوزنا المبادرات والوسائل إذا خلصت النية وصدق العزم على التجاوز. فحين يُروّج للفشل ويُفتقد الأمل وتضعف الأحزاب ويتم ترذيلها، فلا تبقى لها سمعة ولا قدرة على الاستقطاب والتأطير، وتكبر أوجاع المستضعفين، يزداد المشهد ضبابية ويرتفع منسوب التشاؤم، نصير أكثر خوف من سيناريو الفوضى وإدارة التوحّش.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 78، تونس في 18 اكتوبر 2018.
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/44178737_2149115171778922_5804930948046782464_n.jpg?_nc_cat=110&_nc_ht=scontent.ftun3-1.fna&oh=8f1b37813de1ab416ef0c5ca4e846433&oe=5C3CEFF0