خمسينية الاستقلال : فرصة أخرى ضائعة
خمسينية الاستقلال : فرصة أخرى ضائعة
جريدة الموقف بتاريخ 24 مارس 2006
مرّت الذكرى الخمسون لاستقلال تونس يوم 20 مارس 2006 الجاري و كانت على ما يبدو فرصة أخرى ضائعة على السلطة و على المعارضة و على التونسيين عموما .
فالاستقلال على تعدّد أبعاده و دلالاته يظل في المقام الأول حدثا سياسيا بامتياز . والاحتفالات و البيانات و الإجراءات بمناسبة خمسينية الاستقلال لم تتقدم بالوضع السياسي الراهن ببلادنا و لم تؤشر على أي أفق لحلحلته حتّى . كلّ من تحدثوا عن الاستقلال وصلوا الماضي بالحاضر، فترحموا على شهداء الوطن و عبّروا عن العرفان لتضحيات جيل التحرير و عددوا المكاسب أو أحصوا النواقص و أكدوا على الوفاء لدماء الشهداء و على أهمية حماية الاستقلال و الذود عن البلاد في الحاضر و المستقبل ” فلا عاش في تونس من خانها .. و لا عاش من ليس من جندها ” لكن لا شيْ في المحصّلة يجعلنا متفائلين .
فالسلطة من جانبها لم تجد في خمسينية الاستقلال مناسبة لإعلان إطلاق سراح جميع المساجين السياسيين و عودة المغتربين و فتح صفحة جديدة من تاريخ تونس المعاصر، ببدء حوار وطنيّ حول المشكلات و التحديات . فالخطاب الرسمي على عادته ظلّ يمجّد المكتسبات و يعدد الإنجازات و يرى ” انه ليس بالإمكان أحسن مما كان ” . و لا يعترف بوجود أي من المشكلات التي تثيرها المعارضة . و ربما بدا لافتا في هذه الذكرى الوطنية المجيدة تجنّد رموز من الحزب الحاكم و من المعارضة الموالية لإطلاق حملة عبر مختلف الصحف، على المعارضين من النشطاء السياسيين و الحقوقيين و استعمال قاموس ممجوج في ثلبهم و تجريحهم و تخوينهم . فالمعارضة التي لا تعترف بالنعمة و لا تشكر الحاكم صاحب المنّة و لا تبدي الولاء للسلطة و تستمر في نقد الأوضاع و المطالبة بالحقوق و الحريات ، هذه المعارضة هي في نظر هؤلاء إما إسلامية متطرفة و إرهابية و رجعية، و إما غير إسلامية انتهازية و عميلة للسفارات و مرتهنة لدوائر أجنبية . و الخطر كل الخطر هو في اجتماع الفريقين في تحالف مشبوه و مخالف لطبيعة الأشياء فيما يعرف بحركة 18 أكتوبر .
و كم يبدو الأمر غريبا حين تؤكد السلطة أن هذا التحالف زائل و لا مستقبل له ، مع أنها تفعل كل شيء لمنع قيامه و استمراره و تسخر كل إمكانياتها الإعلامية بالداخل و الخارج لتشويهه، في الوقت الذي تحرمه حتى من مجرد الاجتماع . و كم تزداد الغرابة حين يؤكد الخطاب الرسمي أن تونس لكل التونسيين دون إقصاء أو تهميش ، مع أن السلطة في كل مرّة لا تنفتح إلا على نفسها و لا تبدي أيّ استعداد لمحاورة معارضيها و منتقديها . فكل الإجراءات المعلنة بعنوان ” دعم المسار الديمقراطي ” على غرار تمثيل المعارضة في بعض المؤسسات أو الزيادة في منحة الأحزاب أو الاعتراف بحزب جديد … إنما تهدف إلى دعم السلطة لنفسها ، بتوسيع دائرة الموالين لها و تعزيز حضورهم و ضمان بقائهم و الإقناع بأنهم معارضة، و إن لم يصدروا صحفا و لم يمارسوا أ،شطة و لم يكسبوا أ ي إشعاع بين الناس و لم يقنعوا أحدا حتى أنفسهم بأنهم معارضة . و إنه لمن المدهش حقا أن نرى مبادرات سياسية شجاعة لإزالة الاحتقان الداخلي و حلّ الخلافات و تسوية الملفات الشائكة و تغيير المشهد السياسي في بلدان مغاربية مجاورة لنا ،على غرار المغرب و موريتانيا و الجزائر و ليبيا ، في حين يستمر المشهد بتونس رتيبا متكررا منغلقا على نفسه ، مع أن تصور تونس ” جزيرة ” في محيطها مخالف للطبيعة فعلا .
أما المعارضة أعني أساسا الأ طراف السياسية المكوّنة لحركة 18 أكتوبر، فقد اكتفت في خمسينية الاستقلال بإصدار بيان بالمناسبة شدّدت فيه على غياب الحريات السياسية خلال العقود الماضية و إخفاق الحزب الحاكم في إدارة شؤون البلاد، و أكدّت على مطالبها في الإصلاح و تحقيق الانتقال الديمقراطي. و دعت إلى تجمع سلمي احتجاجي يو م الجمعة 18 مارس بساحة الاستقلال وسط العاصمة تمكّن خلاله ـ رغم الحصار الأمني الرهيب ـ عدد من قيادات أللأحزاب و الجمعيات و بعض من استجابوا لدعوة هيئة 18 أكتوبر للحقوق و الحريات، من الوصول إلى المكان المحدد للتجمع و الاعتصام به جلوسا لبعض الدقائق قبل أن تتدخل قوات الأمن بالزى المدني لتفريقهم بالقوة و هم يرددون شعار ” بالروح بالدم نفديك يا حرية ” و سط استغراب المارة و تساؤلاتهم الفضولية .
فالمعارضة بعد خمسين سنة من الاستقلال و بعد كل التضحيات التي قدمتها الأجيال المختلفة و الأطياف المتعددة من أجل الحريات و الديمقراطية في ربوعنا ، لئن نجحت في إضعاف نظام الحكم و تشويه صورته بالداخل و الخارج و التشكيك في مصداقيته و وطنيّته و جعلت من موضوع الإصلاح السياسي و إطلاق الحريات مطلبا ملحا يحظى بالتعاطف و التأييد ، فإنها لم تكن مهيأة في هذه المناسبة لعقد مؤتمرها الوطني الذي تكررت الدعوة أليه خلال السنوات الأخيرة . و لم تنجز” العهد الديمقراطي” الذي تشتغل عليه لدعم الثقة بين أطرافها و تأمين المستقبل . ولم تجد طريقها إلى الجمهور الواسع الذي تقدم نفسها معبرا عن طموحاته و لسانا لمطالبه . و لم تبلور بدائلها و برامجها و لم تتوفق بعد إلى عرض رؤيتها المتكاملة و خطّتها العملية من اجل الانتقال الديمقراطي . و لم تقدر على حمل السلطة على الاعتراف بها و القبول بمحاورتها ، تماما كما أنّ هذه الأخيرة لم تقدر على شطب هذه المعارضة أو إسقاطها من حساباتها ، بما يؤكد أهمية الطرفين في أي حل يتطلع إليه المجتمع الذي يدفع الفاتورة الباهظة لهذا المأزق . إذ بقدر ما تتأخر الديمقراطية تتأخر التنمية و ينخر الفساد أجهزة الدولة ويشقى الناس . و بقدر ما يستمر الاحتقان و يتغذّى من المهاترات و الأحقاد و الإقصاء و الإحباط و التخوين المتبادل ، تضعف الجبهة الداخلية و تتضاعف المخاطر و يتهدد الاستقرار .
و ليس أفضل مناسبة من خمسينية الاستقلال لمراجعة التمشي السياسي ببلادنا و الخروج من المأزق التاريخي . فالتنافس بين السلطة و المعارضة على كسب الدعم الخارجي لا يعزّز مناعة البلاد في عالم تتغير فيه مفاهيم السيادة الوطنية . و إقصاء فريق من التونسيين و القطع معهم مهما كانت مبرراته و عناوينه و المبالغة في النيل من الخصوم ، سياسة لا تخلف غير الأحقاد التي لا أحد يستطيع أن يتحكم فيما قد تولد من ردود أفعال مدمّرة . و المعارضة السياسية لنظام الحكم مهما تجذّرت لن تسقط المصالح العليا للبلاد، و لن تستعيض عن الحوار طريقا للمصالحة الوطنية و حلّ الخلافات . و إذا كان شهداء حركة التحرير قد قضوا ليحي الوطن ، فإن أجيال الاستقلال متى تنعمّوا بثروات الوطن على قاعدة العدل ، و متى شعروا بالعزّة و الكرامة في ربوعه ، أحبّوه و تفانوا في خدمته و الذّود عنه ، فيحيون و يحي الوطن .
محمد القوماني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جريدة الموقف (أسبوعية تونسية) العدد 352 بتاريخ 24 مارس 2006