خدعة الثورة على الثورة.. ثلاث ملاحظات على الحساب
صرّح محسن الدالي نائب وكيل الجمهورية ورئيس وحدة الإعلام والاتصال بالمحكمة الابتدائية بتونس، يوم الثلاثاء 05 ماي 2020 لوكالة تونس إفريقيا للأنباء “بأنّ النيابة العمومية تعهّدت خلال الأيام القليلة الماضية بعدد من الدعوات التحريضية ضدّ مؤسسات الدولة القائمة وبثّ البلبلة على سير عملها”. ويعطي هذا التصريح الموضوع الذي شدّ وسائل الإعلام مؤخرا، وخاصة على شبكات التواصل الاجتماعي، طابعا جدّيا وقد يشكّل منعرجا في تعاطي الحكومة ومؤسسات الدولة مع الدعوات إلى إسقاط النظام السياسي القائم وإلغاء مؤسساته عبر التمرّد عليه، الصادرة منذ أيام، عن جهات مجهولة، أو شخصيات تثير جدالا في الساحة السياسية والإعلامية وتحوم حولها أسئلة عن علاقات مشبوهة تربطها بأجندات بعض الدول أو المحاور الإقليمية. وفي انتظار اكتمال المعطيات ورصد مختلف المواقف والتفاعلات ومتابعة مجريات الأمور، نكتفي بتسجيل ثلاث ملاحظات على الحساب، نعدّها أساسية في فهم ما يحصل.
1 ـ إنّ محصّلة الحكم في عشرية ما بعد الثورة، وخاصة التعثّر في معالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية، وعدم تحسين حياة المواطنين، واستمرار تهميش الفئات والجهات، والعبث بملف العدالة الانتقالية وعدم محاسبة المفسدين والجلادين، وتأخّر المصالحة الوطنية الشاملة، وتزايد مستويات الفقر والفساد والجريمة، والتهريج البرلماني والمناكفات الحزبية والفرقعات الإعلامية، وغيرها من المؤشرات السلبية العامة، إنّ في ذلك ما يدعو إلى الغضب والاحتجاج وتعكير المزاج وتشاؤم الشباب خاصة. وقد أتاحت الحقوق والحريات المكفولة في الدستور، وحرية التعبير خاصة المكتسبة بعد الثورة، صيغا عديدة للاحتجاج والمطالبة بالتغيير. ويعدّ مطلب تغيير النظام السياسي مشروعا، وقد حدّد له الدستور آلياته القانونية. لكن يظلّ البرلمان المنتخب أحد العناوين البارزة للحكم الديمقراطي، ولذلك تعدّ الدعوة إلى إسقاطه بغير الصيغ الدستورية، انقلابا على الشرعية وتحريضا على الفوضى وخروجا فاضحا على القانون، ممّا يستوجب التتبع القضائي والعقاب.
ولا يصحّ التعلّل بالإرادة الشعبية في هذا الصدد، لأنّ الإرادة
الشعبية في النظام الديمقراطي تعبّر عنها أغلبية الأصوات في الانتخابات أو
الاستفتاء، ونواب الشعب هم ممثلوه الشرعيون لعهدة تشريعية متجدّدة. وليس لأحد غير
منتخب انتحال صفة التحدث باسم الشعب. وعليه فإنّ دعوات حلّ البرلمان وإسقاط
الحكومة المنبثقة عنه ليست سوى تعبيرا عن رفض للديمقراطية وعدم الاعتراف بنتائج
انتخابات نهاية 2019 وبالتوازنات السياسية التي أفرزتها. ومن خدعة الخطاب الإعلامي
والسياسي الذي يعتمده البعض، قياس الثورة الشعبية المشروعة على نظام حكم استبدادي،
على أعمال فوضية غير مشروعة على مؤسسات حكم ديمقراطي.
2 ـ إنّ الدعوة إلى “اعتصام باردو2 للإنقاذ الوطني” أو “إسقاط الحكومة وحلّ البرلمان” أو “تغيير النظام السياسي” أو “ثورة الجياع” أو غيرها من العناوين، ليست في النهاية سوى أجندة الثورة المضادة، مهما تسربلت سياسيا واتخذت ذرائع من مصاعب الانتقال الديمقراطي وعثرات الحكم والمناكفات الأيديولوجية وسوء أداء النخب السياسية والمزاج السلبي للناس ومعاناتهم التي تضاعفت بسبب التداعيات الاقتصادية والاجتماعية السلبية للحرب على كوفيد 19.
وقد أثبتت التجربة القريبة المؤكدة خطر الوقوع في شراك الثورة المضادة وإسقاط التجربة الديمقراطية للوقوع مجدّدا في الدكتاتورية. فما حصل في مصر من تضخيم لاحتجاجات ما يعرف بثورة 30 يونيو 2013 على أخطاء الرئيس المرحوم محمد مرسي وحكم الإخوان المسلمين، والتي انخرطت فيها شخصيات سياسية منتصرة للديمقراطية على غرار البرادعي والصباحي وبعض شباب ثورة 25 يناير 2011، أفضت إلى إنهاء الديمقراطية وعودة حكم العسكر بقيادة الفريق عبد الفتاح السيسي، وما صاحب ذلك تدريجيا من تعدّيات على حرية الإعلام وعلى حقوق الإنسان وقمع المخالفين بمن فيهم المساندين للانقلاب، وتزييف للانتخابات، لتعرف مصر أحلك فترات حكمها. وليتبيّن لاحقا أنّ “الثورة على الثورة” خدعة، تركب موجات أخطاء أو مطالب مشروعة، لتنفيذ أجندة إقليمية ودولية في قمع ثورات الربيع العربي وحماية أنظمة الفساد والاستبداد. ومن الغباء تكرار الخطأ، وأن يلدغ الديمقراطيون من نفس الجحر مرّتين.
3 ـ نشرتُ بالعدد 48 من جريدة الرأي العام بتاريخ 15 مارس 2018 مقالا بعنوان “سيناريو انقلابي في تونس لا حظوظ له” أستحضر بعض ما جاء فيه لراهنية ما كتبت آنذاك من جهة، ولتتبينوا معي ما أشبه اليوم بالأمس، وكم تكسّرت على أرض هذه البلاد الطيبة وعلى صخور هذه التجربة الديمقراطية الراسخة والفتية، من سيناريوهات انقلابية مشابهة وأضغاث أحلام تذكرنا بما تتكرّر الدعوات إليها اليوم.
فقد دوَن بعض المهووسين بالإسلام السياسي، خلال تلك الفترة، وكذلك يفعلون اليوم، على غرار الأستاذ عماد بن حليمة، والأستاذة وفاء الشادلي، ما يفيد قرب حصول حملات قمعية تستهدف حركة النهضة أساسا، بناء على معلومات لديهم. وتداولت كتابات بفضاء “الفايس بوك” خاصّة، إشارات ومعطيات وتحاليل وأسئلة حول تحرّكات سياسية وأمنية، تحيل على سيناريو انقلابي محتمل حصوله بتونس لمنع الانتخابات البلدية المقرّرة ليوم 6 ماي 2018، أو لوضع حدَ لمسار الانتقال الديمقراطي.
ويطرح سيناريو الانقلاب في كل مرة أسئلة عديدة من بينها، هل يقدر طرف على تنفيذ انقلاب لا يسنده الجيش؟ ولماذا يتمّ الترويج للانقلاب على حركة النهضة، من طرف خصومها أو حتى بعض أنصارها، والأصل أن الانقلاب يحصل على رئيس الدولة أو رئيس الحكومة، والحال أنّ النهضة حزب مشارك في الحكم، ولا تمسك بأيّ من الرئاستين. ممّا يجعلنا نستنتج دون عناء أنّ للموضوع أسبابا وأبعادا أخرى.
فمن تجرؤوا على دعم انقلاب على ديمقراطية راسخة بتركيا وعلى حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي أبهر الشعب بنجاحاته فانتخبه لثلاث مرات متتالية، وساندوا أو صمتوا على قصف الطائرات للبرلمان ومحاولة اغتيال الرئيس أردوغان المنتخب ديمقراطيا، ومن هلّلوا لمحاولات قذرة وفاشلة من هذا القبيل، إشفاء لمشاعرهم المرضية، لن يُستغرب منهم العمل على زعزعة استقرار تونس أو محاولة إفشال مسارها الديمقراطي الناجح وسط أوضاع إقليمية مضطربة.
ولأننا لا نسمع ولا نقرأ عن سيناريوهات انقلابية في فرنسا أو بريطانيا أو أمريكا أو غيرها من الديمقراطيات العريقة، فإنَ تعلّق هذا السؤال أو الاحتمال ببلادنا والترويج له، دليل واضح على أزمة الثقة بتجربتنا الديمقراطية الفتيَة من جهة. ومن جهة أخرى، يتمّ الحديث عن سيناريو انقلاب في تونس، ولا يضيف المروّجون لهذا السيناريو أنّه عسكري كما هو معروف عن الانقلابات، وإن يلوّحون في كل مرة بتسليم الحكم مؤقتا للجيش. وهذا راجع للسمعة الحسنة التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية ببلادنا، والتي حمت الثورة ولم تنقلب عليها، يوم “كانت السلطة ملقاة في الشارع”، كما قال الجنرال رشيد عمار ذات مرّة. علاوة على تقاليد المؤسسة العسكرية التونسية ذات الاختلاف الجوهري في تاريخها وأدوارها عن نظيراتها في أغلب البلدان العربية.
لهذه الاعتبارات، التي نضيف إليها فشل مخطّطات الإرهاب وسيناريوهات الإرباك والعنف والجريمة، وترسّخ الديمقراطية في بلادنا بالحكم المحلّي، واحتراق مراكب المتآمرين علينا مرات عديدة. ولاعتبارات إقليمية ودولية أخرى، نقدّر أنّ سيناريو انقلابي محتمل بتونس، مهما تعدّدت عناوينه، لا حظوظ له في النجاح. وأنّ قدر النهضة في الاستهداف المستمر لها، نتيجة طبيعية لدورها السياسي المحوري في تأمين انتقال ديمقرطي راكمت في النضال من أجله، وتراهن على كسبه وإن طال الزمن.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 155، تونس في 07 ماي 2020 (نسخة إلكتونية فقط)
فراد والشعبأأأ
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25