حظّ الوطن من الصّراع العاري عن الحكم؟
كرّر الرئيس الباجي قائد السبسي مرارا أنّ مضمون اتّفاقه مع رئيس حركة النهضة في لقاء باريس الشهير يوم 15 أوت 2013 تمحور حول نقطتين أساسيتين وهما “تقديم مصلحة الوطن على مصلحة الأحزاب” و”حلّ جميع مسائل الخلاف عبر الحوار”. وكم يبدو استحضار هاتين القاعدتين على وضوحهما وقلّة مفرداتهما ضروريا، في معالجة الأزمة السياسية الحادّة التي تمرّ بها تونس منذ أشهر، والتي تكثّفت في الصراع المفتوح بين رأسي السلطة التنفيذية في قرطاج والقصبة، وزادها تعقيدا ومخاوف، إعلان نهاية التوافق الذي لم ينته بين الباجي والغنوشي. وفي الوقت الذي يحتدم فيه الصراع عن الحكم في أفق الاستحقاق الانتخابي التشريعي والرئاسي نهاية سنة 2019، الذي لم يعد يخفى أنّه المحرك لمختلف الأجندات والثاوي وراء الأزمة الحالية، يتحتّم السؤال الأصلي عن حظّ الوطن من الصراع العاري عن الحكم؟
بعد سبع سنوات عجاف ونحن نوشك أن ننهي السنة الثامنة للثورة، لم يعد مستساغا ولا مقنعا أن ندعو الناس إلى مزيد الصبر وتفهّم صعوبات المرحلة الانتقالية. فبعض التجارب الناجحة في الحكم على غرار ماليزيا وتركيا حقّقت قفزة نوعية في التنمية الشاملة خلال مثل هذه الفترة. كما لم يعد مقنعا تفسير إخفاقات حكم ما بعد الثورة بمخلّفات حكم الاستبداد أو بعراقيل “الدولة العميقة” و”وضع العصا في الدولاب” كما يقال.
فثورة الحرية والكرامة فتحت آمالا عريضة وغيّرت المزاج العام إيجابيا وشعر فيها الأغلبية بأنّهم يستعيدون وطنهم المخطوف منذ عقود، فصاروا يلتحفون بالعلم الوطني بعدما كانوا يتبرّمون منه ويعدّونه من رموز الحزب الحاكم المنحلّ (الشعبة الدستورية). لكن نسبة التشاؤم المفزعة اليوم في صفوف التونسيين وخاصة الشباب منهم، والإقبال اللافت على الهجرة بكل الطرق الشرعية وغيرها، بما في ذلك قوارب الموت، من الأفراد والأسر ومن جميع الشرائح العمرية والاجتماعية، لا سيما العدد الكبير من الإطارات من الجامعيين والمهندسين والأطباء وغيرهم، وارتفاع معدلات الجريمة المجتمعية التي أضحت تهدّد حياة الـتونسيات والتونسيين وممتلكاتهم وتفسد عيشهم وتصل إلى مستوى التهديد الإرهابي بالأسلحة البيضاء الذي تفوق خطورته التهديد الإرهابي الأيديولوجي المسلح، صارت مؤشرات عكسية على ذهاب الآمال والتشكيك في الثورة، وربما الحنين إلى الماضي الذي قامت عليه.
وكم من حرج يجد المسؤولون في الدولة والسياسيون ومنخرطو الأحزاب وأنصار الثورة عامة، وهم يواجهون شكاوى عامّة التونسيات والتونسيين بما في ذلك أقاربهم وأصدقاءهم، وهم يواجهونهم بالأرقام والمؤشرات السلبية على مظاهر الفشل الاقتصادي وصعوبات العيش. فلم تتراجع معدّلات البطالة ولم تتحسّن أوضاع الجهات والفئات المهمّشة، وارتفعت الأسعار وضعفت القدرة الشرائية. ولم تنجح سياسات الحكومات المتعاقبة في المحافظة على توازنات المالية العمومية، ولا في خلق الثروة، ولا في وضع حدّ للنزيف الاقتصادي، ففاقت المديونية السبعين بالمائة، واستمر الدينار في الانزلاق، وارتفع العجز التجاري إلى مستوى قياسي، وافتقدت في الأسواق مواد أساسية مثل الحليب والدواء، وصار الخبراء يحذّرون من إعلان حالة إفلاس حقيقية.
وفي مثل هذه الأوضاع يحتدم الصراع حول الحكم، فيصرّ فريق على إسقاط الحكومة يأيّ ثمن، أملا في التغيير، ويُقرّر الإضراب العام، الذي يرتبط في أذهان التونسيين بأسوأ الأوضاع والذكريات. ويتمسّك فريق في المقابل باستمرار الحكومة، حفاظا على الاستقرار، دون تعهّد حقيقي بالإصلاحات الاقتصادية المستوجبة ولا قدرة على إنجازها، ولا بإجراءات مقنعة وذات مصداقية في تحسين أوضاع الموجوعين الذين يسوء حالهم كل يوم. وتعود إلى منابر الإعلام المختلفة المناكفات السياسية التي لا يجد فيها المتابعون أجوبة عن أسئلتهم المشروعة ومشاغلهم الحارقة.
فلا وضوح في نتائج الحرب المعلنة على الفساد من أكثر من عام. ولا مصداقية للإجراءات المعلنة في حقّ بعض المتّهمين في التورط فيه ولا في الملفات المحالة على أنظار القضاء المعلنة من جهات عديدة. بل إنّ المؤشرات وأحاديث المجالس تشي بمزيد استشراء الفساد في مؤسسات الدولة الحيوية وفي استعمال الملفات فقط للمساومات السياسية وخدمة أجندات هذا الطرف أو ذاك. ولا تقدّم يُذكر في وضع حدّ للتسيب في الإدارات والمؤسسات وتراجع العمل والإنتاجية، ولا أمل في وضع حدّ لنزيف الشركاتت العمومية وترشيد حوكمتها، بعد أن صارت عبءا ثقيلا على ميزانية الدولة بدل المساهمة في تقوية موارها. ويقف الجميع متفرجين على انهيار المدرسة العمومية التي تظلّ ملاذ عموم التونسيين ومصعدهم الاجتماعي الأول لتحسين أوضاعهم. والأدهى من كل ما سبق والأمرّ منه، أن لا حضور لهذه القضايا الحارقة وغيرها مما لا يتسع المجال لذكرها، في برامج المتصارعين عن الحكم في مختلف مستواته عبر الانتخابات أو التعيينات.
ماذا يهمّ عموم التونسيين في أن ينتصر الشاهد أو حافظ أو الباجي او الغنوشي، أو النهضة او النداء أو الجبهة، أو أيّ طرف يعرض نفسه ويتعالى صوته، إذا لم يكن لذلك أثر مباشر في تحسين يومياتهم وتحقيق تطلعاتهم؟ وأيّ جدوى للديمقراطية إذا صار العزوف غالبا وصارت الانتخابات لا تعني أكثر من ثلثي الشعب؟ وما الفائدة من السياسة أصلا إذا لم تكن الطبقة السياسية في خدمة المجتمع وتلبية تطلعات الشعب والتنافس على التقدم بأوضاعه وتحسين ظروف عيشه؟ إذ ليس أخطر على مستقبل تونس من هذا التباعد بين مجتمع الحكم (النخب) ومجتمع المحكومين (عامة الشعب).
لكلّ ما تقدّم يتأكد تساؤلنا عن حظّ الوطن من الصّراع العاري عن الحكم؟ وقد تعمّدنا استعمال الحظ وليس النصيب لتفريق اللغويين بين المفردين. لأنّ “أصل الحظ هو ما يحظه الله تعالى للعبد من الخير، والنصيب ما نُصب له ليناله سواء كان محبوبا أو مكروها، ويجوز أن يقال الحظ إسم لما يرتفع به المحظوظ، ولهذا يذكر على جهة المدح فيقال لفلان حظ وهو محظوظ، والنصيب ما يصيب الانسان من مقاسمة سواء ارتفع به شأنه أم لا” .
ولا نظننا نظلم طرفا، أو نفتعل تشاؤما، حين نجيب في ضوء ما يفوح من صراع عار عن الحكم من أجل الحكم، تُستخدم فيه جميع الوسائل المشروعة ودونها، بأنّه لا يبدو للوطن حظ يرتفع به، ولا تبدو للشعب مصلحة في معركة الحكم التي تدور رحاها ويخشى على أن تأتي على ما تبقّى. إذ حين يتأكد الفشل، ويُفتقد الأمل، يُخشى أن ينتفض الموجوعون، ولا تبقى للأحزاب سمعة ولا قدرة على التأطير واجتراح الحلول، فنكون أقرب لسيناريو الفوضى، وهو أسوأ ما نتوقّع. ومن قبل قال الزعيم غاندي “كثيرون حول السلطة، قليلون حول الوطن”.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 76، تونس في 04 اكتوبر 2018.
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/43155464_2129856317038141_5774075902992318464_n.jpg?_nc_cat=100&oh=6fa061c9c695ea0336f65b322ef80c2a&oe=5C4F1821