ثورة متعثّرة .. وغدا أفضل .. هل يكون الانفراج؟
ليست الثورة قرارا سياسيا لحزب معيّن أو جهة ما، ولا نزوة شخص أو أطراف، كما يُستشف ذلك من تصريحات البعض أو تدويناتهم خلال الفترة الأخيرة. بل الثورة مراكمة لوعي بالظلم والقمع، ولنضال متعدّد الأوجه والعناوين، وتوفّر شروط تاريخية داخلية وخارجية، وإرادة شعب مصمّم على الانعتاق ومتطلّع إلى الأفضل. وللثورة يوميّات حاسمة في مسارها وأهداف تضبط بوصلتها، بما يجعل لها ماض ومستقبل، وبما يساعد على رصد مدى نجاحها.
بهذه الجمل المكثّفة أروم التوقّف مجدّدا عند سرديّة ثورة الحرية والكرامة في ذكراها الثامنة، التي لا ينفكّ التشكيك فيها وتبخيس رموزها وعناوينها، من قبل من يحنّون إلى مواقعهم الدافئة ومصالحهم غير المشروعة زمن الاستبداد والفساد. كما أروم فكّ بعض شفرات المشهد السياسي الحالي، ورصد ملامح المرحلة القادمة، في ضوء تداعيات اجتماع الثمانية الأخير بقرطاج، وجهود المصالحات على أكثر من صعيد، لتطويق الأزمة السياسية المستمرّة، والوضع الاجتماعي المتفجّر، وتهيئة البلاد لانتخابات تشريعية ورئاسية بالغة الأهمية نهاية العام.
ثورة حقيقية غير مسبوقة
يتحتّم في كلّ ذكرى للثورة، الجدال حول مفهومها وسرديّتها، وذلك جزء من الصراع السياسي، وجانب من تعارض المواقف والمصالح قبل الثورة وبعدها. وبعيدا عن الجدال النظري العقيم أحيانا، حول أيّ المصطلحات أنسب لتوصيف مــا حصــل بتونس ما بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011، يمكن الاتفاق عل أنّ الغضب الاجتماعي الذي انطلق من سيدي بوزيد، امتدّ إلى القصرين بالوسط الغربي التونسي واتّخذ منعرجا حاسما هناك، قبل أن يعمّ مختلف الولايات بدرجات متفاوتة ويتحوّل إلى انتفاضة شعبية، كانت كفيلة في أقلّ من شهر، بوضع حدّ لنظام بوليسي كان يُنظر إليه على أنّه من أعتى الدكتاتوريات في المنطقة، لتكون بداية ثورات عربية غير مسبوقة.
لم تأت الثورة التونسية صدفة على غرار ما يحاول البعض تسويقه. فهي تتويج لنضالات مريرة وتضحيات جسيمة، بصرف النظر عن تعقيدات اليوميّات الحاسمة في الثورة والمتدخّلين فيها والفاعلين في نتائجها.
كما لا يجوز فصل السياسي عن الاجتماعي في الثورة. فقد توازى خلالها شعار “التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق” مع شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”. وكان هروب الرئيس المخلوع بن علي وبعض أفراد عائلته يوم 14 جانفي 2011، عنوانا لانزياح كابوس الاستبداد والفساد عن تونس. إذ تحرّر التونسيون ودخلوا في أجواء ما تواضعوا على تسميته بالثورة، التي انضمّوا إلى حركيّتها بعد ذلك بأعداد أكبر بكثير ممّا حصل من قبل.
لم تكن الثورة صناعة خارجية، بل استفادت من ظرف مناسب. فقد بات معلوما أنّ حكم بن علي وفساد عائلته، خلقا خصومات وعداوات داخلية وخارجية، وباتا يهدّدان مستقبل تونس على أكثر من صعيد، فتمّ التخلّي عنهم ليلاقوا مصيرهم المحتوم، أمام ثورة الشعب الهادرة، التي خُضّبت بدماء الشهداء والجرحى. ورغم تعاقب الحكومات المختلفة،بعد 14 جانفي، فإنّه لا توجد إلى حدّ الآن، رواية رسميّة لما حدث في يوميّات الثورة. ولا يزال التونسيون يتطلّعون إلى الحقيقة.
مسار متعثّر بعد الثورة
بعثرت الثورة للأسف أوراق الأحزاب والعائلات الأيديولوجية التي التقت في مقارعة الاستبداد، وكان توحّدها حاسما في كسب المعركة. فتخاصمت وحكمها الاستقطاب الأيديولوجي وتفرّقت كلمتها وذهب ريحها وعادت إلى مربّعات التنافي والاحتراب.
وكان الصراع قويّا بعد14جانفي 2011 بصور معلنة وأخرى مخفية، حول تحديد وجهة الثورة التونسية، بين مساري التغيير الجذري وتصفية المنظومة القديمة للحكم بأشخاصها وممارساتها، والانتقال الديمقراطي وما يفرضه من معجم مخصوص وتسريع للإصلاح وتسوية سياسية بين القديم والجديد. وقد حُسم الأمر بوضوح لصالح المسار الثاني، لكن دون أن يسلّم أطراف المسار الأوّل، ودون أن تتوضّح عناصر التسوية الشاملة أو تتمّ بين من ينخرطون في المسار الثاني.
مثّل لقاء باريس سنة 2013 بين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي محطّة فارقة في إنقاذ التجربة التونسية من أزمة سياسية حادّة تردّت إليها الأوضاع. وتدعّم التوافق بين الزعيمين، ليشمل حزبي النداء والنهضة المتنافسين الغريمين في انتخابات 2014. فكانت تجربة الحكم المشترك وسرديّة “الاستثناء التونسي” أمام العواصف التي عبثت ببقية تجارب ثورات الربيع العربي.
وكان المؤمّل أن يتوسّع التوافق في حكومة الوحدة الوطنية، كما تمّ اشتغال البعض على تحقيق مصالحة تاريخية بين الدستوريين والإسلاميين عموما، بعد عقود من التنافي والصراع، في إطار مراجعات نظرية و عدالة انتقالية ومصالحة وطنية عادلة وشاملة.
لكن ها نحن في الذكرى الثامنة للثورة، لم نستكمل مسار الانتقال الديمقراطي. فلم تتأسس الهيئات التعديلية والرقابية التي عُدّت من أهمّ مكاسب دستور 2014، باستثناء “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات” التي تعمل في ظروف صعبة. ولم تتكوّن المحكمة الدستورية التي نصّ الدستور على إرسائها في أجل أقصاه سنة بعد انتخابات 2014. ويبدو حصاد العدالة الانتقالية دون المأمول بعد نحو خمس سنوات من عمل هيئة الحقيقة والكرامة المنتهية عهدتها. بما يجعل الحديث عن نجاح المسار السياسي نسبيّا.
أمّا عن أهداف الثورة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي فحدّث عن الفشل ولا حرج. فمعدّلات البطالة لم تتراجع. وأوضاع الجهات والفئات المهمّشة لم تتحسّن، بل ارتفعت الأسعار وضعفت القدرة الشرائية وافتقدت بعض المواد الأساسية في السوق. ولم تنجح سياسات الحكومات المتعاقبة في المحافظة على توازنات المالية العمومية، ولا في خلق الثروة، ففاقت المديونية السبعين بالمائة، واستمر الدينار في الانزلاق، وارتفع العجز التجاري إلى مستوى قياسي. ولم تتحقق الإصلاحات المعلنة، وازداد التسيّب في الإدارات والمؤسسات العمومية، وتراجع العمل والإنتاجية، واستشرى الفساد أكثر، وارتفعت معدّلات الجريمة، وصارت المدرسة العمومية مهدّدة، وبات الوضع كارثيا أو يكاد
تعطّل التوافق وتشاؤم بالمستقبل
تحقّقت بعض المكاسب السياسية الهامّة للبلاد ولأحزاب الحكم خلال الأربع سنوات الماضية بفضل التوافق الذي صمد رغم كلّ الفخاخ. وكان نجاح الانتخابات المحلية في ماي 2018، خطوة هامة في تكريس اللاّمركزية وتدعيم الديمقراطية. لكنّ الأزمة السياسية الأخيرة، التي تسبّب فيها سوء التعاطي مع نتائج الانتخابات البلدية، والخلاف حول التغيير الحكومي المطلوب، بعثرت الأمور مرّة أخرى، بين الحلفاء الجدد.
وخلافا لما تمّ الترويج له من انتهاء الأزمة السياسية بالمصادقة على التعديل الجزئي للحكومة، وأداء أعضائها الجدد اليمين يوم 14 نوفمبر 2018، استعرت نار الأزمة وبات وجهها الأبرز الصّراع المفتوح بين رئاسة الجمهورية وحزب النداء من جهة، ورئاسة الحكومة وحركة النهضة من جهة ثانية، الذي لم يبالغ المتابعون في وصفه بصراع كسر العظام. فالصراع العاري عن الحكم الذي لا حظّ للوطن فيه، واستباحة جميع الوسائل لاستهداف الخصوم في سنة انتخابية مميزة، تجعل نيران الأزمة السياسية قد تأتي لا قدر الله تعالى على محصول ثمان سنوات من الانتقال الديمقراطي المتعثّر.
وفي ظلّ تعطّل كيمياء التوافق، واستفحال الأزمة السياسية، يتصاعد الاحتقان الاجتماعي وتزداد المخاوف عن مستقبل “الثورة السائلة”. فمن الطبيعي أن يرتفع نسق الاحتجاجات الاجتماعية في ذكرى الثورة، بعد الحصاد الهزيل المسجّل، على المسارين الاقتصادي والاجتماعي خاصة. وقد أفصحت استطلاعات أخيرة للرأي استعداد بعض التونسيين للتضحية بجزء من حرياتهم إذا كان ذلك ضروريا لتحسين أوضاعهم الاقتصادية. فالمتشائمون والموجوعون، من الشباب خاصة، ومن المهمشين والمفقّرين عامّة، معذورون في مزاجهم السلبي بعد ثمان سنوات عجاف. ولم يعد المستقبل الغامض يشغل التونسيين وحدهم، بل صار مادّة لمقالات عديدة وتعليقات بمنابر إعلامية عربية وأجنبية، لا تستبعد سيناريوهات فوضى داخلية مدعومة من جهات خارجية، تستهدف أوّل حلقات الربيع العربي وآخرها في آن.
ملامح انفراج
جاء اللقاء الأخير يوم 28 ديسمبر 2018 بقرطاج، الذي جمع فيه رئيس الجمهورية أهمّ الفاعلين السياسيين والاجتماعيين مجدّدا، ليشكّل بارقة أمل لتجاوز وضع صعب. ويبدو أنّ نتائجه الإيجابية بدأت تظهر من خلال مؤشّرات قرب حصول تفاهم بين الحكومة واتحاد الشغل حول الزيادات وإلغاء الإضراب العام المقرّر. وتلك خطوة حيوية في خفض الاحتقان الاجتماعي استهدفها اللقاء، الذي يرجّح أنّه قد يفتح أبواب انفراج على الصعيد السياسي أيضا.
فقد ثمّنت حركة النهضة من جانبها لقاء قرطاج. وعبّرت عن دعمها لدور رئيس الجمهورية. وأكّدت التوافق معه خاصّة في المرحلة القادمة كما جاء بيانها. كما نشطت محاولات صلحية بين الأطراف المختلفة وعقدت لقاءات ثنائية لم يتمّ إعلان بعضها. ويبدو أنّ كيمياء التوافق قد تُفعّل مجدّدا بين الباجي والغنوشي، وإن استمرّت العلاقة متوتّرة إلى حين بين النداء والنهضة. إذ الخلاف الذي لم يعالج في وقته المناسب، صار مستعصيا. وما يستدعي التوافق بين الشيخين، أهمّ بكثير ممّا يرجّح التباعد والتنافس بين الحزبين في زمن انتخابي بامتياز.
ختاما
لن نكسب شيئا من تبادل التّهم وتحميل المسؤولية لجهة واحدة في تعثّر مسار الثورة وتأخّر تحقيق أهدافها. فالمسؤولية تظلّ جماعية وإن اختلفت الدرجات والمقادير. وما قد نكسبه سياسيا في تثبيت حرية التعبير والإعلام، واستقلال القضاء، وحيادية المؤسستين العسكرية والأمنية، وانتظام الانتخابات، سيشكّل صمام أمان للعبور بتونس نحو شاطئ الأمان وغد أفضل.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد90، تونس في 10 جانفي2019.