تصالح دولة الاستقلال والثورة تهميش للاستئصاليين ومناعة لتونس
لا أخفي شعور الارتياح بتحرير مقالي المائة بأسبوعية الرأي العام، تزامنا مع لحظة وطنية مميّزة بإحياء الذكرى الثالثة والستين لاستقلال تونس. كان مقالي بالعدد الأوّل في 06 أفريل 2017 بمناسبة ذكرى وفاة الزعيم الحبيب بورقيبة بعنوان “تصالحنا حول الماضي من شروط مصالحتنا في الحاضر”، وعودا على بدء أجدني أنجذب إلى ذات الموضوع بتخصيص القول فيه. بل أحسب أنّ هذه الإشكالية حكمت أهمّ مقالاتي، مع اختلاف السياقات والعناوين. فنحن نكتب أساسا شهادة على الواقع و”معذرة إلى ربنا”، وذلك أضعف الإيمان. وكم تبدو الكتابة بهذا المنبر مريحة، حين تأتي في تساوق مع الخط التحريري للجريدة، التي أعلنت في افتتاحية عددها الأوّل، أنّها لن تكون صوتا لأيّ طرف، بل صوتا لتونس. تنحاز لأهداف ثورة الحرية والكرامة وإنجاح مسار الانتقال الديمقراطي، وتحرص على المصلحة الوطنية العليا، وهي خطها الأحمر الوحيد، وتمارس دورها النقدي تجاه مختلف الأحداث والأطراف، لكنها تظلّ داعمة للتوافق والوحدة الوطنية. وقد يبدو من المفيد إضافة إلى ما تقدّم، أن أذكر بأنّني من جيل ومن بيئة، لا أنكر فضل دولة الاستقلال علينا ماديا ومعنويا، ومع ذلك كنت ممّن عارضوا دولة الاستقلال وابتهجوا لانتصار ثورة الحرية والكرامة. واعتمادا على مقاربة إصلاحية، كنت ولازلت منخرطا فيها قبل الثورة وبعدها، أقدّر أنّ هدف المصالحة الوطنية الشاملة، يظلّ أحد أهمّ شروط نجاح الانتقال الديمقراطي، وأنّ تصالح دولة الاستقلال والثورة عنوان لتلك المصالحة.
تتيح ذكرى الاستقلال فرصة للترحّم على شهداء الحركة الوطنية الأبرار، والاعتراف بالجميل لمن أسهموا من مواقعهم المختلفة، في إعلان استقلال تونس يوم 20 مارس 1956، وإنهاء حقبة مريرة من الاستعمار المباشر الذي اكتوت بناره شعوب عديدة. لكن الذكرى فرصة أيضا للوقوف على إنجازات دولة الاستقلال وإخفاقاتها، ووصل الماضي بالحاضر ورسم تحديات المستقبل.
فدولة الاستقلال التي قادها الدستوريون بزعامة بورقيبة حقّقت مكاسب لا ينكرها إلاّ جاحد أو جاهل، في التعليم والصحة والأسرة والبنية التحتية وخلق محرّكات للاقتصاد الوطني والتنمية، وغيرها من المجالات. لكنّ دولة الاستقلال للأسف انبنت على الإلحاق الثقافي والاستبداد والحكم الفردي والمركزية والتفاوت بين الجهات، وكانت تلك أهمّ عناوين معارضتها من أجيال على مدى عقود، ومن عائلات فكرية وسياسية مختلفة، ليتراكم النضال ويتعدّد الضحايا، حتَى كانت ثورة الحرية والكرامة سنة 2011.
ونستحضر في هذا السياق شهادة وداديّة قدماء البرلمانيين التونسيين، وهي جمعية تضمّ إطارات مهمّة جدّا ممّن عملوا في البرلمان زمن حكم بورقيبة وبن علي، وكانوا أيضا قيادات في الحزب الدستوري بمختلف مراحله وتسمياته، التي أصدرت منذ سنتين تقريبا، بيانا سياسيا بعنوان “القراءة النقدية لسياسات فترة الحكم في تونس من سنة 1955 إلى سنة 2010”، وأقرّت فيه بوضوح أنّه “ممّا يجب التسليم به أن هذه الفترة الغنية بالإنجازات التاريخية، لم تفلح في ميدان أساسي، ألا وهو قيادة البلاد، تدريجيا، في سبيل الديمقراطية، وذلك خاصة في مراحل معينة كانت الفرص فيها مواتية لذلك، لو استطاع النظام الحاكم اغتنامها”.
وعدّد أصحاب الوثيقة الأخطاء التي اعتبروها عوامل تفسّر الاستقبال الحسن لإزاحة بورقيبة سنة 1987. وانتهوا بعد تقييم حكم بن علي إلى أنّ على الدستوريين “ألاّ ينكروا ما تخلّل بعض مراحل الحكم من توجّه خاطئ أو زيغ عن الحق، وظلم لبعض ذوي القربى في الوطن، وذلك مما يرفع عن ضمائرهم الوطنية الحرج، ويزكي حقّهم في أن يواصلوا، في مسيرة الديمقراطية الوليدة”.
فبعد14جانفي 2011 كان الصراع قويّا بصور معلنة وأخرى مخفية، حول تحديد وجهة الثورة التونسية، بين مساري التغيير الجذري وتصفية المنظومة القديمة للحكم بأشخاصها وممارساتها (المصادرة والمحاكمات والعزل وتجريم مدح النظام القديم والتأسيس…)، والانتقال الديمقراطي وما يفرضه من معجم مخصوص وتسريع للإصلاح وتسوية سياسية بين القديم والجديد (الحوار والتوافق والمصالحة…). وقد حسم الأمر بوضوح لصالح المسار الثاني، لكن دون أن يسلّم أطراف المسار الأوّل، ودون أن تتوضّح عناصر التسوية الشاملة وتنجز بين من ينخرطون في المسار الثاني.
ففي ظلّ النهج السلمي للثورة التونسية، وخيار الانتقال الديمقراطي، كان من المؤمّل أن تنفتح دولة الاستقلال على الطاقات التي عانت من الإقصاء والتهميش، وأن تسري دماء جديدة في الحكم مُشبعة بقيم الثورة ووفيّة لأهدافها، حتّى تصحّح الدولة مسارها دون قطيعة أو هزّات لا تتحمّلها، وحتّى تتكامل الأجيال وتلتقي مختلف العائلات الفكرية والسياسية على خدمة مصالح وطنية جامعة. وأن ينتهي احتكار الدولة من طرف واحد لتكون جاذبة لأبنائها لا طاردة لهم.
كما كان على الذين عملوا طويلا في مواجهة الدولة أن يندمجوا في مؤسساتها وأن يعملوا من داخلها. فالثورة تجبّ ما قبلها، ومن ينخرطون في أهدافها ومسارها، ويلتزمون بدستورها، مهما كانت مواقعهم قبلها ومهما كانت إسهاماتهم فيها، لا فضل بينهم ولا عداوة، وأيديهم ممدودة لبعضهم لطيّ صفحة الماضي بسلبياته ومكاسبه، ولكتابة صفحات جديدة مشرقة من تاريخ تونس. لكن ها نحن نستكمل السنة الثامنة للثورة دون أن يتحقّق الأمل.
بل إنّ حزب حركة النهضة على سبيل المثال، الذي كان قمعه وحظره عنوان الاستبداد خلال العقود الأخيرة، والذي يعدّ من أهمّ الفاعلين السياسيين حاليا، لا يزال بعد تقدّمه في الانتخابات ومشاركته في الحكم بعد الثورة، يتعرّض إلى ملاحقة فكرية وسياسية لا تختلف في المقصد عن الملاحقة الأمنية والقضائية قبل الثورة. إذ لا تزال تتعالى من حين لآخر أصوات استئصالية تحذّر من “تسلّل النهضويين إلى مفاصل الدولة”، و”التغلغل في الإدارة”، من خلال التعيينات، وكأنهم “غزاة” أو مواطنون من الدرجة الثانية؟ أو كأنّ أصحاب هذه الأصوات أولى بالمواقع في الدولة منهم؟ كما تتعالى أصوات أخرى منادية بإقصاء النهضة من المشهد السياسي تحت عناوين متعدّدة، تختلف في المداخل وتتّفق في الغاية. فالنهضة في خطاب بعض قيادات الأحزاب أو الشخصيات المستقلة، ملف أمني وليست منافسا سياسيا، والسجون والمنافي هي الأماكن التي تليق بقياداتها وأنصارها.
وكأنّ “الدولة الصلبة” بمثل هذه الخطابات تستعصي عن إدماج معارضيها السابقين. وأنّ دستور الجمهورية الثانية والمكاسب السياسية الهشّة للمرحلة الانتقالية، لم تؤمّن بعد، انتقالا ديمقراطيا مُطمئنا. إذ يتخفّى البعض وراء شعار الدفاع عن “البورقيبية” لاستمالة أنصار منظومة ما قبل الثورة، في مواجهة خصوم سياسيين جاءت بهم الثورة إلى الحكم. وفي ظلّ تعطّل كيمياء التوافق بين الباجي والغنوشي وبين النداء والنهضة، واستفحال الأزمة السياسية بين رأسي السلطة التنفيذية وتصاعد الاحتقان الاجتماعي تزداد المخاوف عن مستقبل “الثورة السائلة”.
ولجميع ما تقدّم نرى أنّ التصالح بين دولة الاستقلال والثورة، إحدى الشروط التي لا غنى عنها للمصالحة الوطنية المتأكدة. وليس ذلك بعزيز البتّة إذا تعقّل الجميع وأدركوا فضائل التحلّي بالموضوعية وتغليب المصلحة الوطنية على المناكفات الأيديولوجية والسياسية والضغائن الشخصية. فماذا على “البورقيبيين” ومن أسهموا في الحكم قبل الثورة لو اعتذروا بشجاعة عن النهج الاستبدادي لحكمهم؟ وأعلنوا انخراطهم في مسار الثورة وأهدافها؟ وماذا على معارضي “البورقيبية” بالأمس، والمستفيدين من الثورة اليوم، لو اعترفوا بفضائل الزعيم التاريخي بورقيبة، الذي لا يلغي استبداده بالحكم وشخصنته له، ما كان يتمتع به من “كاريزما” وما كانت تحظى به اجتهاداته الموفّقة من تأييد شعبي وتقبّل واستحسان خارجي؟ وأن يقرّوا بمكاسب دولة الاستقلال ويبنوا عليها مسار الإصلاح والتجديد؟
ففي ظلّ مشهد عربي درامي تُقايض فيه الحرية بالأمن ويبدو فيه انهيار البلدان ثمن التخلص من استبداد الحكّام، وتبدو فيه الدولة في تنافر مع الديمقراطية، كم يبدو مؤلما حنين البعض إلى وضع الاستبداد هروبا من مصاعب الانتقال الديمقراطي الشاقّة وكلفتها الباهظة. حالهم كالذي يهرب من الرمضاء إلى النار. وكم يبدو حريّا بنا معشر التونسيين أن نعي أنّ من فضائل ثورتنا نهجها السلمي، وأنّ من خصائص تجربتنا في الانتقال الديمقراطي، التي أعطتها فرصا استثنائية للنجاح، خيار المصالحة والتوافق في مقابل نزعات الانتقام والإقصاء.
وإنّ من شروط استكمال هذا الخيار ألاّ يخضع مطلب المصالحة الوطنية إلى أجندات شخصية أو حزبية أو فئوية أو ربّما خارجية، لإرباك الساحة الوطنية وتعطيل مسار التجربة التونسية، وأن تتمّ مصالحة واعية وعميقة بين دولة الاستقلال وثورة الحرية والكرامة، حتّى تتكامل الأجيال وتلتقي مختلف العائلات الفكرية والسياسية على مصالح وطنية جامعة، وتتنافس الأحزاب، في إطار التعددية والشفافية، على البرامج والأشخاص التّي تؤمّن تلك المصالح. وبذلك وحده يهمّش الاستئصاليون وإن لم ينقرضوا، وتنعم تونس باستقرارها ومستقبلها الديمقراطي الزاهر، وتتأهّل لرفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تظلّ لها الأولويّة.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 100، تونس في 21 مارس 2019