بعد تصريحات الشاهد..هل حكمت النهضة فعلا أم تمّ تحميلها أعباء الفشل؟
اعتبر رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد أنّ مشاركة حركة النهضة في الحكم في الفترة من 2014 إلى 2019، كانت رمزية، وأنّ المقود كان بيد رئيس الجمهورية الراحل الباجي قايد السبسي وحزب النداء. وقد أعادت هذه التصريحات في برنامج “بلا قيود” على قناة بي.بي.سي الناطقة بالعربية يوم 28 ماي 2021، الجدال مجدّدا داخل النهضويين وخارجهم، حول موقع النهضة ومسؤولياتها في الحكم خلال العشرية الأولى لثورة الحرية والكرامة. إذ تتزامن تصريحات الشاهد في هذا الصدد مع مناكفات سياسية وسرديات متقابلة في تحديد المسؤوليات في ما آلت إليه أوضاع البلاد خاصة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
ومع إقراري بداية بتحمّل حركة النهضة لجزء من مسؤولية حكم تونس خلال الفترة الأخيرة، وارتكابها أخطاء في الحكم، أروم في تفاعل مع تصريحات الشاهد ومن خلال قراءة في وقائع عديدة واستحضار شواهد عن عشرية ما بعد الثورة، أن أرفع لبسا وأنير الرأي العام التونسي والمتابعين في مسؤولية النهضة فيما آلت إليه أوضاعنا استنادا إلى نسبة مشاركتها في الحكم، من خلال التمييز بين ما ألمحنا إليه في عنوان هذا المقال، بين أن تكون النهضة محدّدة في اختيار الحاكمين، وأن تكون حاكمة أو محدّدة للحكم.
ميّز الشاهد بين فترة حكم الترويكا بقيادة النهضة من 2011 إلى 2013، والتي شهدت فيها تونس حسب وصفه “أخونة للمجتمع” على غرار التسفير إلى سوريا ونصب الخيمات الدعوية ووضع النقاب…والفترة من 2014 الى 2019 التي كانت مختلفة تماما حسب زعمه، والتي قادتها رؤية الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي رحمه الله، الذي أراد احترام نتائج الصندوق بإشرك “الاسلاميين”، لكن جعل مشاركتهم رمزية في الخمس سنوات، وترك المقود بيده. فلم تتجاوز تمثيلية النهضة 3 أو 4 وزراء في حكومات 30 وزيرا، وكانت تجربة “تعايش” وليس تجربة “تحالف” استراتيجي. واعتبر الشاهد أن الباجي من وضع هذه السياسة وأقنع بها “حتى لا تتمّ أخونة البلاد” ونجح في ذلك.
و قد بدت هذه الحقيقة صادمة لبعض النهضووين، إذ اعترف الشاهد أنّه كان يراوغ الحركة ويخاتلها. بل كان قائما علي خطة مدروسة تلتقي مع توجيهات المرحوم الباجي، بإيهام النهضة بالتوافق مع النداء والحكم معه، دون أن تحكم فعلا او تتصرف في أيّ شي، مهما كان عدد وزرائها. وبصرف النظر عن الخلاف الذي كان سائدا آنذاك داخل النهضة حول العلاقة بالباجي وبالشاهد، خاصة بعد خلافهما المعلوم، فإنّ تصريحات الشاهد التي جاءت في آخر حواره وفي دقائق معدودة، كانت مسيئة جدّا لحركة النهضة بتصنيفها في خانة “الإسلام السياسي” واتهامها ب”أخونة المجتمع”، وعدم ذكر أيّ دور إيجابي لها أو احتمال الالتقاء معها مجدّدا، في تنكّر واضح من الشاهد لحركة النهضة التي ساندته وتمسّكت برئاسته للحكومة حين قرّر الباجي عزله، وفي تجاهل لمكانة النهضة في المشهد السياسي حاضرا ومستقبلا.
ولا يخفي بعض النهضويين “الغبن” الذي يشعرون به بدفاعهم عن خيار “التوافق” ودعمهم لحكومة الشاهد، الذي استفاد وحزبه “تحيا تونس” من دعم النهضة حتى حقّقوا تمدّدا في الحكم أكبر من حجمهم، وصار لهم انتشار في الإدارة التونسية لا يزالون يستفيدون منه إلى الآن، رغم خيبتهم في الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019، والسقوط المدوّي للشاهد الذي كاد ان يحقّق طموحه بأن يصير رئيسا للجمهورية. بل يذهب بعض النهضويين إلى أنّ ما حصل مع الشاهد، سبقته تجربة مع دعم حكومة المهدي جمعة “المستقلة”، التي تنكر رئيسها للنهضة أيضا، وقد يتكرّر السيناريو مع حكومة هشام المشيشي التي تدعمها النهضة ولا تشارك فيها بوزراء. إذ يُرجّح بعض النهضويين ومتابعون أنّ كتلة الاصلاح برئاسة حسونة الناصفي وحزب تحيا تونس برئاسة الشاهد ومن يصفونهم ب”طلبة التجمع” سابقا، هم أكبر المستفيدين من “حكومة التكنوقراط” الحالية، ويزايدون على النهضة في البرلمان التي تتحمّل العبء الأكبر في إسناد الحكومة وتتحمّل تبعاتها السياسية. والمحصّلة الظالمة أنّ غير النهضويين يتولون الحكم فعليا، والنهضويون يُحسب عليهم الحكم ويحملون أوزاره دون محاسنه.
كم تبدو مراجعة “مُسلّمات” في الفكر أو في السياسة ضروريّة للتخلّص من معوّقات ذهنية في فهم الواقع المعيش كما هو، وليس بصفته أبنية ذهنية في الخطاب السائد. فبعض المقولات في السياسة تتّخذ صفة “المسلّمات” ويتمّ البناء عليها، ليس بسبب وضوحها وقوّة منطقها الداخلي الذي يجعل منها قاسما مشتركا لا يحتاج إلى استدلال، بل تتّخذ صفة “المسلّمات” من كثرة تكرارها والترويج لها، وسكوت المتقبلين لها وعدم فحص مضمونها ومناقشة صدقيّتها. ومن تلك المقولات التي نروم “اختبارها” ومراجعتها في هذا السياق الإدّعاء بأنّ الحكم في تونس بعد الثورة كان بيد النهضة دون غيرها.
لا يتّسع المجال لتفصيل الأمثلة والاستدلال على ما ندّعيه على سبيل المثال من حضور لافت لليسار في الحكم بتونس ومسكه بمواقع هامّة في الدولة والمجتمع وتأثيره المباشر في مواقع القرار، بما لا يلائم تمثيليّته الشعبية وحجمه الانتخابي. وإذا اقتصرنا على مرحلة ما بعد الثورة، يكفي أن تعودوا، كما فعلتُ، إلى مواقع “النات” لتستعرضوا خاصّة تشكيلة الحكومة الأولى للسيد محمد الغنوشي المُعلنة يوم 17 جانفي 2011، أو حكومة السيد الباجي قائد السبسي المُعلنة في 07 مارس 2011، أو القائمة الأولى لأعضاء “الهيئة العليا للانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي وتحقيق أهداف الثورة” برئاسة السيد عياض بن عاشور، لتتبيّنوا بوضوح، حجم مشاركة شخصيات يسارية، لا يُشقّ لها غبار كما يقال، في إدارة المرحلة المؤقتة الأولى قبل انتخابات 23 أ كتوبر 2011، بصرف النظر عمّن اعتذروا أو استقالوا لاحقا أو انضموا في التعديلات الحاصلة.
وحتّى خلال حكم “الترويكا” بقيادة حركة النهضة، في 2012 و1013، لم يكن التوافق على ما يرام بين النهضة وحزبي المؤتمر والتكتل. وكان لليسار حضور ومشاركة من خلال بعض قيادات ووزراء الحزبين. ومن خلال الأصوات العالية “لليساريين” في المجلس الوطني التأسيسي وفي الاتحاد العام التونسي للشغل وفي جمعيات فاعلة بالمجتمع المدني وفي وسائل الإعلام، لا تخفى تأثيراتها جميعا، في القرار السياسي، خاصّة من خلال الحوار الوطني. وبعد انتخابات 2014 كان حضور اليساريين أكبر في الحكم سواء باسم حزب نداء تونس الذي شاركوا في التحالف المؤسّس له تحت عناوين مختلفة، أو من خلال صفة “المستقلين” التي تكاد تُقصر على شخصيات يسارية أيضا. ويكفي مرّة أخرى استحضار تشكيلة حكومة السيد الحبيب الصيد سواء الأولى المجهضة لغلبة المسحة اليسارية عليها، أو المعتمدة في 05 فيفري 2015، وكذلك حكومة الوحدة الوطنية برئاسة السيد يوسف الشاهد، لتأكيد الحضور اللافت للشخصيات اليسارية نساء ورجالا في الحكم.
وإنّنا لا نجافي الحقيقة حين نؤكد أنّ “اليساريين” أمسكوا طيلة المرحلة المنقضية بمختلف الوزارات بما فيها وزارات السيادة. كما استمرّ تأثيرهم قويّا من خلال وجودهم بمؤسسات هامّة في الدولة أو التحكّم في المجتمع المدني ووسائل الإعلام المختلفة. فكيف يستمرّ مع ذلك كلّه ترديد بعض الإعلاميين والسياسيين أنّ الحكم بعد الثورة كان بيد النهضة؟ في ظلّ الحقائق السابق ذكرها، و في تجاهل واضح لمسك حزب النداء بعد 2014 بمراكز السلطة الثلاثة في قرطاج والقصبة وباردو والمشاركة الرمزية للنهضة كما ذكر الشاهد مؤخرا. وكبف يدّعي اليسار وطيف ممن شاركوا في الحكم قبل الثورة في ضوء كل هذه الحقائق، أن لا مسؤولية لهم في “الفشل” الذي تتحمّله النهضة لوحدها. لسان حالهم المثل التونسي “داخل في الربح ..خارج في الخسارة”.
إنّ حركة النهضة التي كسبت الانتخابات أكثر من مرّة، وحافظت على كتلة قوية ومتماسكة في البرلمان، كانت محدّدة بلا شكّ في تحديد الحاكمين من الوزراء الذين تتم تزكيتهم، وربما فيمن يعيّنون بعد ذلك على رأس الإدارة، لكنها فعلا لم تكن تحكم. ويكفي شاهدا بليغ الدلالة في هذا السياق ما حصل مؤخّرا، من اعتذار الإعلامي كمال بن يونس بعد تعيينه على رأس وكالة تونس إفريقيا للأنباء، بسبب رفض النقابات وبعض العاملين لتسميته لأنّه “قريب من حركة النهضة” ويرفضون الشخصيات المتحزّبة، والحال أنّ الإعلامي رشيد خشانة كان على رأس المؤسسة قبله بقليل، وهو قيادي حزبيّ معلوم.
والأدهى من أنّ النهضة تحدّد الحاكمين ولا تحكم، أنّها لم تكن تهتمّ كثيرا بالحكم واختياراته وأولوياته وبرامجه. ولم تتح المناكفات الحادّة فرصا جديّة لتقييم تجربة النهضة في الحكم بعد الثورة. وتلك نحسبها من أوليات حركة النهضة في الذكرى الأربعين لتأسيسها نهاية هذا الأسبوع، وفي أفق مؤتمرها الحادي عشر نهاية هذا العام.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 208، تونس في 03 جوان 2021
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25