انتخابات عامة دون عفو عام ! ؟
انتخابات عامة دون عفو عام ! ؟
جريدة “الموقف” بتاريخ 17 سبتمبر 2004.
عقب الانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 1999 تعاقبت المبادرات والنداءات المطالبة بالإصلاح السياسي ببلادنا. ويمكن الجزم بأن الإجماع حاصل حول اعتبار سن قانون العفو التشريعي العام مؤشرا حاسما في اختبار مدى اتجاه السلطة نحو انفراج سياسي ما. وربما انتظر التونسيون في أكثر من مناسبة قرارا بإطلاق سراح جميع المساجين السياسيين خطوة في هذا الاتجاه. لكن الآمال تبخرت والإشاعات كذّبتها الحقائق و ها نحن مقدمون بعد نحو شهر على استحقاق سياسي على غاية من الأهمية تستعد فيه السلطة لتنظيم انتخابات عامة جديدة يوم 24 أكتوبر 2004 متجاهلة جميع مطالب الإصلاح السياسي المتأكد وفي مقدمتها العفو التشريعي العام. فما هي دلالات هذا المطلب في ضوء هذا الاستحقاق ؟
لا ينكر أحد أن الصدام الذي حصل بين السلطة وحركة النهضة عقب الانتخابات العامة لسنة 1989 وبصرف النظر عن تفاصيل أسبابه والتي تتحمل النهضة جانبا من المسؤولية فيها، هذا الصدام قد خلّف آثارا مدمّرة على المجتمع بأكمله. فالانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان أثناء الاعتقال والتحقيق وخلال فترة قضاء العقوبة، والعدد الكبير جدّا ممن شملتهم الملاحقات، والأحكام الثقيلة التي أصدرتها المحاكم في مختلف أنحاء البلاد قد خلّفت حالة من الرعب والانكماش عن الاهتمام بالشأن العام. والإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها السلطات لمواجهة الخطر المحتمل من النهضة استمرت وتوسعت لتضيّق على الإعلام وحق الاجتماع وحرية التنظم وحرية التنقل والحياة الفكرية والثقافية والعلاقات العامة والإدارة… فساد “الهوس الأمني” ليشمل الدولة والمجتمع، السلطة والمعارضة، وعاشت تونس عشرية سياسية عسيرة ومنغلقة خلال التسعينات.
واليوم، ودون الخوض في حركة المدّ والجزر التي عرفتها استفاقة المجتمع المدني في مطلع الألفية الجديدة، ودون إنكار بعض المكاسب التي تحققت في مجال الحريات بما في ذلك ما يتصل بملف المساجين السياسيين، لنا أن نتساءل شهرا قبل الانتخابات العامة وبعد نحو أكثر من عشر سنوات من محنة التسعينات. إلى متى ستستمرّ مأساة مئات المساجين من ذوي الاحكام الثقيلة وفي ظروف سجنيّة قاسية جدّا ؟ يكفي ذكر عدد من يخضعون للحبس الانفرادي وذكر من قضوا نحبهم في تلك الظروف شهادة على ذلك الواقع ؟ وإلى متى سيستمر وضع آلاف المهجرين قسرا من التونسيين والذين تحتضن عشرات البلدان في العالم عددا من اللاجئين السياسيين من بينهم ؟ وهل آن الأوان لإنهاء أوضاع اجتماعية مزرية لمئات العائلات التونسية التي تعاني من تشتت أفرادها ومن الفاقة والمحاصرة الشاملة ؟ ومن يا ترى المستفيد من استمرار وتوسع تدهور صورة تونس في الإعلام الخارجي ولدى الرأي العام العالمي والتي يقوم ملف المساجين والمغتربين الشاهد الأساسي على تلك الصورة السيئة ؟ وهل ينسجم الخطاب المبشر بإصلاحات جذرية و ” جمهورية ثانية ” ومستقبل واعد مع واقع يجرّ ملفا ثقيلا من الماضي وسياسة تتجاهل هذا الملف رغم فشلها في إقناع أي طرف بالداخل أو الخارج بإنكار وجود مساجين سياسيين بتونس ؟ ولماذا تبقى بلادنا حالة شاذة واستثناء في محيط مغاربي وعربي تبذل الدولة والمجتمع في مختلف أقطاره جهودا معتبرة لحل سياسي لمثل هذه الملفات ؟ ومن أي منطلق وطني يمكن التغاضي عن مخاطر الاحتقان الداخلي وتداعيات الأقليات المضطهدة على الاستقرار والوحدة الوطنية ؟ وأخيرا وليس آخرا وبمناسبة الانتخابات العامة بالذات كيف نطلب من المواطنين المشاركة الواسعة في استحقاق سياسي على هذه الدرجة من الأهمية فندعوهم إلى الترشّح أو التصويت وهم غير آمنين على أنفسهم وأهليهم، مسكونون بالرعب والخوف منكفئون على ذواتهم غير مبالين بالشأن العام، وهم يختزلون كل تداعيات محنة التسعينات ولا يرون في الواقع الحالي أيّ مؤشرات لإعادة الأمل وطيّ صفحة الماضي. وتجدر الإشارة في الختام إلى أن إطلاق سراح المساجين السياسيين لا يستوعب مطلب العفو التشريعي العام كما نفهمه لما يشمله هذا الملف من ألوان سياسية مختلفة وأجيال متعاقبة وحقوق متعددة. تماما كما أن هذا الأخير لا يختزل مطالب الإصلاح السياسي. لكن يبقى كل إجراء في هذا الاتجاه خطوة هامة في الاتجاه الصحيح.
محمد القوماني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة “الموقف” (أسبوعية تونسية) ، العدد278 بتاريخ 17 سبتمبر 2004.