الدساترة على خطى الإسلاميين في المراجعات.. فمتى بقيّة التيّارات؟
جريدة الرأي العام، العدد 17 ، تونس في 03 أوت 2017.
أصدرت وداديّة قدماء البرلمانيين التونسيين في الذكرى الستين لقيام الجمهورية بيانا سياسيا بعنوان “القراءة النقدية لسياسات فترة الحكم في تونس من سنة 1955 إلى سنة 2010”. ولا يخفى على المتابعين أنّ هذه الوداديّة، عنوان سياسي رغم صبغتها الجمعياتية، فهي تضمّ إطارات مهمّة جدّا ممّن عملوا في البرلمان زمن حكم بورقيبة وبن علي، ولكن كانوا أيضا قيادات في الحزب الدستوري بمختلف مراحله وتسمياته. وقد كان البعد النقدي واضحا في البيان مهما بدا محتشما، بما يؤشر بوضوح على تدشين الدساترة مرحلة من المراجعات الضرورية والوقوف على الأخطاء وتصويب الأمور في المستقبل، على غرار ما فعل الإسلاميون وحركة النهضة أساسا. وترشّح اعتبارات عديدة هذه الوثيقة لتكون موضوع اهتمام خاصّ، لأنّها الأولى في المجال ولأنّها تعبّر عن موقف جماعي، ولأنّ الممضين عليها أو بعضهم ما زالوا يتطلّعون إلى مواصلة العمل السياسي، ولأنّها تقرّ بأخطاء يطالب خصوم الدساترة بعد الثورة بالاعتذار العلني عليها.
أدبيات النقد الذاتي ومراجعات الإسلاميين
يٌعرف صنف معيّن من الأدبيات السياسية خاصّة والفكرية عامّة، بما يصطلح عليه ب”النقد الذاتي” كما ارتبط أكثر بأوساط اليساريين أساسا، ويصطلح عليه ب”المراجعات” في أوساط الإسلاميين أساسا. وهو صنف من الكتابات التي تأتي في صيغة بيانات مطوّلة في الغالب أو حوارات مدوّية لكبار القادة أو وثائق تعكس حوارات معمّقة بالسجون أو مؤلفات نقدية عميقة تشمل المنطلقات الفكرية والمفاهيم الكبرى ومناهج التغيير المعتمدة من التنظيمات السرية أو الأحزاب التاريخية أو الجماعات الدينية. وعادة ما تكشف هذه الكتابات اعترافات بالأخطاء أو اعتذارات للخصوم أو إقرارا بالمأزق والدعوة إلى حلول مختلفة… وهي تقود في الغالب إلى انشقاقات كبرى داخل التنظيمات أو التيارات أو نشأة كيانات جديدة عادة ما تكون تجاوزا للسابق وتطلعا إلى مستقبل مختلف.
وفي مثال دالّ من المشهد التونسي المعاصر نذكر النقد الذي باشره “الإسلاميون التقدميون” بشكل واسع، للاتجاه الإسلامي بتونس خاصة ولأدبيات الإخوان المسلمين عامة، في سياق مرحلة نقدية عرفها الفكر العربي المعاصر عموما. وكان لهذا النقد أثره الواضح داخل الجماعة الأمّ وفي مستقبل الاتجاه الإسلامي ومسار حركة النهضة. وقد أقرّت وثائق عديدة في النقد الذاتي أنتجتها حركة النهضة في المهجر بعد محنة التسعينات، ونشرت بعضها في بياناتها وإصداراتها، الأثر الإيجابي لذلك النقد. ثمّ جاء المؤِتمر العاشر في أفريل 2016 ليخصّص لائحة للتقييم، أشّرت على إيجابيات للحركة وأقرّت بأخطاء هامّة قبل الثورة وبعدها، وأثنت على النقد الداخلي والخارجي داخل الساحة الإسلامية في تطوير خطابها وسياساتها. وقد أقرّت عموم لوائح المؤتمر توجّهات ل”نهضة جديدة”، عدّها المؤتمرون انعطافة تاريخية للحركة، ونالت اهتمام المتابعين في الداخل والخارج واستحسانهم. ناهيك أنّ زعيم الحركة ورئيسها المؤسس الشيخ راشد الغنوشي يقود بنفسه التوجهات الجديدة، والتي من أهمّها تجديد الرؤية الفكرية والتخلّي الذاتي عن نزعة الشمولية وتخصّص الحزب في السياسة، والمفاصلة مع الإسلام السياسي العنيف والتأكيد على الإسلام الديمقراطي، والعمل داخل الدولة بدل معاداتها أو مخاصمتها، والسعي إلى فكّ الاشتباك الفكري مع الخصوم السياسيين والبحث عن أوسع توافق ممكن معهم، والانفتاح على مختلف الأجيال والكفاءات والشرائح الاجتماعية والتموقع في الوسط الاجتماعي العريض، وتجاوز الاستقطاب الأيديولوجي عل قاعدة الهوية والتنافس على خدمة الناس…وغيرها من مخرجات المؤتمر العاشر.
الدساترة على خطى الإسلاميين في المراجعات
اعتبرت وثيقة وداديّة قدماء البرلمانيين التونسيين تاريخ تونس المعاصر “حقبة الحزب الحر الدستوري”. فهو من قاد الحركة الوطنية منذ تأسيسه في 1920 حتى تحقيق الاستقلال في 1956. وهو من استأثر بقيادته للحياة السياسية، طيلة فترتي حكم، الرئيس الحبيب بورقيبة وخليفته زين العابدين بن علي إلى نهاية 2010. فأشارت الوثيقة إلى “تنافس القيادات واختلافها، وعدم القدرة على التعايش الهادئ بينها، (…) وارتكبت، في ذلك، أخطاء بلغت أحيانا مستوى الخطايا”. وهذا إقرار يحصل لأول مرّة في حق خصوم بورقيبة من اليوسفيين أساسا. وقسمت الوثيقة حقبة حكم بورقيبة وكذلك بن علي إلى فترتين. وعدّدت أهم الإنجازات في المرحلة الأولى لكل رئيس والإخفاقات والأخطاء في الفترة الثانية. في تقسيم يحيل على موقف المعتزلة قديما من حكم عثمان بن عفان.
ففي الفترة البورقيبية انتقدت الوثيقة “تعطّل التحوّل السلس من هيمنة الرئيس الذي لم يقدر على التخلص من شعور طاغ بأنه أبو الشعب” إلى “الاستجابة لما أصبحت عليه النخب، في البلاد، من تنوع ووعي وكفاءة”. و”نشأت الأزمات الحادة، خصوصا، في التعامل مع الشباب، بصورة عامة، والجامعي، بصورة خاصة، وحتى في الشباب الدستوري” ومع “القيادات النقابية العمالية التي كانت مجالا لقوى معارضة، ولحساسيات سياسية لم تجد لها ميدانا مسموحا فيه بالنشاط”. وعرّجت على سوء إدارة الخلاف البورقيبي اليوسفي ثم اختلاف الآراء في مؤتمر المنستير 1971 ثم تزييف أول انتخابات تعددية في 1981، لتخلص إلى أنه “مما يجب التسليم به أن هذه الفترة الغنية بالإنجازات التاريخية، لم تفلح في ميدان أساسي، ألا وهو قيادة البلاد، تدريجيا، في سبيل الديمقراطية، وذلك خاصة في مراحل معينة كانت الفرص فيها مواتية لذلك، لو استطاع النظام الحاكم اغتنامها”. وعدّدت الأخطاء التي اعتبرها أصحاب الوثيقة عوامل تفسّر الاستقبال الحسن لإزاحة بورقيبة سنة 1987.
أمّا حكم بن علي فبعد التغيير الإيجابي وبدء الإصلاحات، سرعان ما انحرف فتمّ “حصر اتخاذ القرارات المهمة في مركزية خانقة مرتبطة به شخصيا أو بمن يختارهم هو، في أجهزة الدولة” فغابت الديمقراطية داخل الحزب وهيمن الوصوليون وأُضعف حزب التجمع بتهميشه في كل المستويات. ثم كان “الركون إلى استعمال العنف، في علاقات الحكم بالمعارضين”. ثمّ بدأ الإعداد للتراجع عن أحد العناصر البارزة في بيان السابع من نوفمبر وفي تحوير الدستور لسنة 1988 بإنهاء الرئاسة مدى الحياة مند تحوير الدستور سنة 2002 عبر آلية الاستفتاء. “وبدأت تروج الهمسات بأن خلافة الرئيس يجري الترتيب لها لئلا تخرج عن المحيط العائلي الضيّق وقد كان ذلك من أشد البواعث على الإحباط والتوجس”. أما العامل الأخطر “فهو ما أصبح شائعا من مظاهر ثراء فاحش وجديد، في عائلات قريبة من الرئيس (…) ومن علاقات أصحابها بمفاصل الحكم وأجهزته الاقتصادية والمالية والجمركية والقضائية والأمنية، ومن السبل التي يتم بها الابتزاز والسطو على المال العام والخاص، بصور تقترب من القول بوجود بدايات لتنظيمات مفيوزية، أصبحت في طريقها للتحكم في البلاد”. وبدأت النقمة على هذا الوضع تتفشى في الغالبية النزيهة من المسؤولين في الدولة، واتسعت موجة الانتقادات في الاوساط الشعبية. كما أن انسداد الآفاق أمام فرص التشغيل قد فاقمت التوتر الاجتماعي وألهبت نقمة الشباب المتخرج من الجامعات والمنقطع عن التعليم. وبسبب هذه لأخطاء الفادحة لم يستطع النظام أن “يتفادى ما جرى بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011”. من انتفاضة أصبحت ثورة.
وتختم الوثيقة بالتأكيد على أنّه لا يجوز مستقبلا “التعويل على الأشخاص”، بدل المؤسسات وهيئات الرقابة. وأنّ على الدستوريين “ألاّ ينكروا ما تخلّل بعض مراحل الحكم من توجّه خاطئ أو زيغ عن الحق، وظلم لبعض ذوي القربى في الوطن، وذلك مما يرفع عن ضمائرهم الوطنية الحرج، ويزكي حقهم في أن يواصلوا، في مسيرة الديمقراطية الوليدة”.
متى تكتمل الحلقة؟
لم تخل الوثيقة من جرأة لافتة أحيانا في النقد وتعداد الأخطاء التي تبدو معلومة لدى المعارضين السابقين، لكن أهميتها أن يشهد بها شاهد من أهلها. ورغم التحفّظ الذي تفسّره كل بدايات في المراجعة، فإنّ المطلوب قد تحقّق بمقدار لابأس به من اعتراف بالزيغ والخطيئة والتزييف والحكم المافيوزي والظلم للمعارضين واستحضار الضمير وانخراط في مسار الثورة والدستور الجديد. ويبقى الأهمّ أن تتعزّز هذه القناعات وتتوسّع وتُرفق بمواقف وممارسات تزيد من مصداقيتها، مادام أصحاب الوثيقة وغيرهم لا يخفون رغبتهم في مواصلة العمل السياسي. ويا ليت هذا النهج في المراجعات الذي شمل بعض الإسلاميين والدستوريين يمتدّ لبقية هذه العائلات وغيرهم من اليساريين والقوميين، فتكتمل دائرة النقد الذاتي، وتتعزّز الثقة بين كبرى العائلات السياسية لتجتمع الإرادة والبوصلة والأعمال في إنجاح الانتقال الديمقراطي وتأمين تجرية ديمقراطية تونسية تسجّل نجاحا استثنائيا لكنها تشكو من هشاشة.
محمد القوماني