الحريات السياسية استقلالنا الثاني
في الذكرى الخمسين للاستقلال
الحريات السياسية استقلالنا الثاني
* افتتاحية جريدة الموقف بتاريخ 10 مارس 2006
تبدو المفارقة حادة حين نقول أن قضية الحريات السياسية ببلادنا مازالت مطروحة برمتها في الوقت الذي نستعدّ فيه للاحتفال بعد أيام قليلة بالذكرى الخمسين لاستقلال تونس .
صحيح إن أوضاعا كثيرة تغيرت نحو الأفضل يحق لنا أن نفاخر بها و نتذوّق من خلالها طعم الاستقلال، فنترحّم على شهداء الوطن و نعترف بالفضل لأبناء تونس البررة من الأحياء و الأموات ، و ندرك بالوقوف عندها واجبنا في المحافظة على هذا المكسب و صون الوطن في وقت مازالت فيه أوطان أخرى ترزح تحت نير الاحتلال، بل يطل الاستعمار البغيض برأسه مجددا بعدما خلناه أفل بلا رجعة . لكن صحيح أيضا أن الحرية باعتبارها جوهر الاستقلال لم تكتمل في بلادنا التي قطعت الشوط الأول في إجلاء جيوش المستعمر و لم يعد بها مقيم عام يمثل سلطة الاحتلال ، لكنها تعثرت في الشوط الثاني الذي يقتضي حكم التونسيين لأنفسهم بأنفسهم و تكريس إرادتهم الوطنية الحرة في اختيار من يحكمهم عبر انتخابات حرة و نزيهة و تكريس مواطنتهم و مشاركتهم في الحياة العامة على قاعدة المساواة عبر دستور يكفل الحريات و يفصل بين السلطات و يكرس التداول السلمي على السلطة و يضمن مراقبة الشعب للحكام . بما يذكي الوطنية في نفوس جميع التونسيين دون إقصاء أو تهميش حين يشعرون أنهم أسياد على أرضهم ، معزّزون في دولتهم ، شركاء في صنع حاضر بلادهم ومستقبلها .
ان خمسين سنة من الاستقلال تسقط كل الذرائع في تأجيل الديمقراطية و إشاعة الحريات السياسية سواء باسم المرحليّة و التدرج أو باسم ترتيب الأولويات أو بالتعلّل بالظرف الدولي.
لقد انطوى دستور 1959ـ رغم نواقصه الجوهرية ـ على مبادئ تحررية هامة التفّت عليها كلّيا القوانين التفصيلية لا حقا، و غيّبتها نهائيا المفارقة بين القوانين و الممارسة، حتى أفضت ثلاثون سنة من حكم الزعيم بورقيبة إلى سلطة فردية شخصنت الدولة و عمقت التداخل بين الإدارة و الحزب الحاكم و احتكرت الإعلام و أقصت المعارضين . و هي السياسات التي انتهت إلى عزلة الحكم و ضعف الدولة و خبت فيها الروح الوطنية مما جعل عموم التونسيين يتبرّمون حتى من العلم الوطني الذي لم يعد رمزا لوطن كل التونسيين الذي ضحى من أجله الشهداء و لم ينعم الجميع على قدم المساواة بثمرة استقلاله . و تراجعت شعبية الزعيم بورقيبة الذي أحبّه التونسيون لكن رئاسته التي أرادها مدى الحياة جعلته يحكم من موقع العجز وطالت شيخوخته و كره قطاع عريض من التونسيين نظامه و لم يحزن الأغلبية لإزاحته من الرئاسة ، مثلما حزنوا لموته رحمه الله .
جاء بيان السابع من نوفمبر 1987 مدينا للرئاسة مدى الحياة و للخلافة الآلية مقرا بنضج التونسيين و استحقاقهم لحياة سياسية متطورة واعدا بالحرية و الديمقراطية جازما بأنه لا ظلم بعد ذلك اليوم .
و كان المضمون السياسي لبيان السابع من نوفمبر ـ و الذي لم يتضمن غير السياسي ـ الدليل على أن أزمة تونس سياسية في جوهرها ، و أن القضايا التنموية و الاجتماعية و الاقتصادية و التربوية و غيرها ، لئن احتاجت إلى المراجعة و التطوير في كل مرحلة فإنه لا معوّل على إصلاحها دون الإصلاح السياسي . و تأتي الشواهد من كل الجهات المختصة في مطلع الألفية خصوصا ، لتؤكد بأن الديمقراطية شرط للتنمية الشاملة، و الإصلاح السياسي مقدمة لبقية الإصلاحات . بل إن مختلف القطاعات تظل هشة و مهددة في غياب الحكم الصالح .
فالاستثمار على سبيل المثال باعتباره أداة حيوية للتنمية الاقتصادية و للتشغيل و لمعالجة الأزمات الاجتماعية ، يقر الجميع اليوم أنه لا ينتعش في أي دولة و لا يستمر إلا بضمان إعلام حرّ و قضاء مستقل و شفافية في المعاملات . و تلك قواعد أي إصلاح سياسي و أركان لأي نظام ديمقراطي . و قد كشف التقرير الثالث للتنمية البشرية في البلاد العربية المخاطر التي تهدد المجتمعات التي تتعطل فيها التنمية السياسية .
فإذا أضفنا إلى هذه البواعث الذاتية ذات البعد الوطني على الحاجة إلى الديمقراطية ، تطلّع عموم التونسيين و في مقدمتهم النخب الناشطة إلى نظام سياسيي قوامه الحرية و العدل و المساواة و احترام حقوق الإنسان ، و ما بذلته هذه النخب من تضحيات على هذا الصعيد عبر العقود الماضية و ما خلّفه هذا الكفاح الطويل في ظلّ الاستقلال من شهداء و مهجّرين و مساجين و معطّلين و مشرّدين … بما يعنيه ذلك من تضييع للطاقات و هدر للإمكانيات و إضعاف للنظام و تآكل لشرعيته و تشويه لصورته و ضعف لوزنه في الداخل و الخارج . أدركنا التكلفة الباهظة للاستبداد .
و إذا وضعنا تلك البواعث و التطلعات ضمن ظرفية دولية جديدة أصبحت فيها” الديمقراطية ” على الأجندة الخارجية للقوى المتنفذة في العالم و صار ” الحكم الصالح ” و ” الإدارة الرشيدة ” نموذجا يراد عولمته على غرار عولمة الاقتصاد و الاتصال و المعرفة ، و استحضرنا أن العوامل التي تم تبرير تأجيل الديمقراطية بسببها خلال العقود الماضية و منها حالة الجهل و الفقر في المجتمع و المحا فظة على ” الوحدة القومية ” في وجه المخاطر الأجنبية و هيمنة الأنظمة الشمولية و حكم الحزب الواحد في أغلب بلدان العالم و تصدّر شعارات ـ ليس من بينها الديمقراطية و حقوق الإنسان ـ للخطاب السياسي، كلها عوامل قد زالت و بان زيفها . تبينّا فسح المجال واسعا للديمقراطية و الحريات السياسية المتأكدة في هذه المرحلة .
وإذا كان الاستبداد قد نخر جسم الدولة و المجتمع معا ، و بينت الوقائع انه عاجز عن حماية الأوطان فضلا عن تورطه المباشرفي تسهيل احتلالها ، و أنه العقبة الكأداء أمام التنمية التي تعزز الاستقلال و تحميه ، فان النضال من أجل تحقيق الحريات السياسية و إقامة الديمقراطية أولوية على طريق إكمال استقلالنا . و إذا كان الحزب الحر الدستوري الجديد قد وفّق في وضع البرنامج السياسي الذي أفضى إلى إعلان الاستقلال في 20 مارس 1956 فان تونس في هذه المرحلة من تاريخنا تبدو في حاجة ماسّة إلى تمشّ سياسي جديد يؤمن استقلالنا الثاني .
فالديمقراطية التي أصبحت من ثوابت الخطاب السياسي الرسمي بعد السابع من نوفمبر 1987 لا تسندها الممارسة ، و التعددية التي قبل بها بورقيبة في آخر حكمه ، و توسعت خارطتها في العهد الجديد بأسماء أحزاب عديدة آخرها ” حزب الخضر للتقدم ” لم تغير المشهد السياسي الأحادي التي بقيت تحتكره السلطة و تجعل من كثرة أحزاب المعارضة الموالية مجرد ديكور ، و الإجراءات المعلنة في كل مناسبة بعنوان تعزيز الديمقراطية زادت في تعميق الأزمة السياسية و أداء المعارضة المتقطع و حالها المشتت و ضعفها الميداني المؤكد ، عوامل لم تساعد على فتح أفق سياسي واعد . لذلك نقول بعد نصف قرن من استقلالنا أن قضية الحريات السياسية ببلادنا مازالت مطروحة برمتها و نحن بحاجة إلى تمش سياسي جديد .
و لعل الأجيال الجديدة من التونسيين الذين يواكبون عبر الفضائيات تهاوي الأنظمة الشمولية و هبّة الجماهير في أكثر من دولة لإلغاء نتائج انتخابات مزورة أو معاقبة حكومة فاسدة أو الاحتجاج على سياسية لا توافق عليها تجعل التفاؤل بالمستقبل قائما . فالأغلبية الصامتة متى أخذت بناصيتها و نهضت تعبيرا عن مواطنتها و انخرطت في معركة الاستقلال الثاني تكون قد حسمت أمر الديمقراطية المتعثرة ببلادنا .
محمد القوماني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* افتتاحية جريدة الموقف (أسبوعية تونسية) العدد 350 بتاريخ 10 مارس 2006