التلبيس في استهداف الديمقراطية باسم الإسلام السياسي
يسود اعتقاد في أوساط تونسية عريضة بأنّ بلادنا تقع تحت “برج اللطف” على حدّ قول بعض السادة الصوفية، وتحظى بعناية إلهية استثنائية تحفظها من المكاره وتخفّف عليها الشدائد، وآخرها الأضرار المحدودة جدا لجائحة كوفيد19. ويسود اعتقاد آخر أيضا وهو أنّ تونس محفوظة من مؤامرات أعدائها من الخارج، وإن تمّ اختراقها وأصابها مكروه، فلن يكون ذلك إلا بأيدي بعض أبنائها. فهل تفصح دعوات إسقاط المنظومة السياسية القائمة خلال الفترة الأخيرة على أنّ التونسيين ينقضون غزلهم أنكاثا؟ وهل يتمّ التلبيس على التونسيين، على غرار تجارب أخرى، في استهداف الديمقراطية باسم التخلّص من الإسلام السياسي، الذي تتم شيطنه ونسبة الإخفاق والإرهاب والفوضى وكل مكروه إليه؟
انتصرت ثورة الحرية والكرامة في تونس وكانت فتيلا لثورات عربية سنة 2011 تمّ الغدر بها بتحريف مسارها أو الانقلاب عليها. واستطاعت التجربة التونسية أن تصمد في العواصف التي هبّت على المنطقة واستهدفت الربيع العربي تحت عناوين شتّى، ليظلّ الانتقال الديمقراطي في تونس استثناء يفخر به المنتصرون للحرية ويضيق به ذرعا من يحنّون إلى الاستبداد. وتتزامن خلال الفترة الأخيرة حملات إعلامية عربية لدول معيّنة لم تعد تخفي عداءها للديمقراطية، ضدّ رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان الشيخ راشد الغنوشي، مع دعوات تونسية ملتبسة الهوية في أغلبها، تستهدف الاستقرار السياسي تحت عناوين مختلفة تتخفى وراءها، وأهمها التحريض على تغيير النظام السياسي انتصارا لشرعية الرئس قيس سعيد، واستبعاد الإسلام السياسي باعتباره أصل المشكل.
لا يصعب على أيّ متابع التقاط الخيط الناظم بين الحملات الخارجية المتصاعدة وبعض الأوضاع الإقليمية المتحركة، وبين التحرّكات والمواقف الداخلية المسجّلة في الأسابيع الأخيرة والأجندات السياسية لبعض الأحزاب والأشخاص التي تبحث عن تقاطعات في استهداف الاستقرار السياسي.
يوجد في الواقع ألف سبب كما يُقال يستدعي الغضب والاحتجاج وتعكير المزاج وتشاؤم الشباب خاصة. فمحصّلة الحكم في عشرية ما بعد الثورة، وخاصة التعثّر في معالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية، وعدم تحسين حياة المواطنين، واستمرار تهميش الفئات والجهات، والعبث بملف العدالة الانتقالية وعدم محاسبة المفسدين والجلادين، وتأخّر المصالحة الوطنية الشاملة، وتزايد مستويات الفقر والفساد والجريمة، والتهريج البرلماني والمناكفات الحزبية والفرقعات الإعلامية، وغيرها من المؤشرات السلبية العامة، عوامل تغذّي العزوف عن الشأن العام وانتقاد الطبقة السياسية برمتها وترذيل الاحزاب والمؤسسات. وحين تضاف إلى ذلك التداعيات السلبية الاقتصادية والاجتماعية غير المسبوقة، الناجمة عن الحجر الصحي العام والشامل في مواجهة كوفيد19، تصبح الأوضاع أكثر خطورة ومدعاة للانشغال.
وتتيح الحقوق والحريات المكفولة في الدستور، وخاصة حرية التعبير المكتسبة بعد الثورة، صيغا عديدة للاحتجاج والضغط والمطالبة بالتغيير. وتجتهد الحكومة ومختلف مؤسسات الحكم في التفاعل الإيجابي مع الأوضاع الصعبة والمطالب المشروعة. لكن تظلّ الدعوات التحريضية ضدّ مؤسسات الدولة القائمة وبثّ البلبلة على سير عملها، جريمة تعهّدت بها النيابة العمومية خلال الأيام القليلة الماضية. وحين تُشحن الحملات التحريضية على بعض مؤسسات الحكم ورموزها وعلى أحزاب وأشخاص معيّنين، بالدعوة الصريحة إلى القتل وإراقة الدماء والانتقام والتباغض، تصبح الجريمة أخطر بلا شك والتداعيات أشدّ.
لا نشكّك في أنّ مطلب تغيير النظام السياسي حق مشروع لمن ينادي به، لكن نذكّر بأنّ الدستور حدّد له آلياته القانونية، والتي تمرّ جميعها عبر البرلمان المنتخب، الذي يمثّل أحد العناوين البارزة للحكم الديمقراطي. ولذلك تعدّ الحملات الممنهجة على البرلمان ورئيسه والدعوة إلى إسقاطه بغير الصيغ الدستورية، انقلابا على الشرعية وتحريضا على الفوضى وخروجا فاضحا على القانون، ممّا يستوجب التتبع القضائي والعقاب.
ولا يصحّ التعلّل بالإرادة الشعبية في هذا الصدد، لأنّ الإرادة الشعبية في النظام الديمقراطي تعبّر عنها أغلبية الأصوات في الانتخابات أو الاستفتاء. وقد دقّق الدستور في صيغ الانتخابات بما في ذلك السابقة لأوانها. أما الاستفتاء الذي ينادي به البعض خارج سياقه، فقد أتاحه الدستور فقط في القوانين التي يصادق عليها البرلمان، ويرى رئيس الجمهورية عدم ختمها أو ردّها أو الطعن فيها، بل عرضها على الاستفتاء.
قد نتّفق أو نختلف في الموقف من النظام السياسي الذي أقرّه دستور 2014، لكن لا ننسى أو نتناسى أنّ مؤسساته لم تكتمل بعد، بما في ذلك المحكمة الدستورية التي لم يتمّ إرساؤها، وهي شرط لا غنى عنه في أيّ تعديل للدستور. والأهم من ذلك الانتباه إلى أنّه من التلبيس الكبير في هذه المرحلة، ركوب البعض لموجة التأييد الشعبي الواسع في انتخاب رئيس الجمهورية قيس سعيد، والتخفي وراء آرائه الشخصية في صيغ الانتخابات أو طبيعة النظام السياسي والتي لم يبلورها بعد في مبادرات تشريعية، ولم يتناولها البرلمان، واعتماد ذلك مدخلا لخلق صراع بين مؤسستي رئاسة الجمهورية والبرلمان والطعن في شرعية باسم الأخرى. وبصرف النظر عن تقييم تصريحات الرئيس سعيد المتكررة حول النظام الانتخابي والسياسي في إطارها وسياقها ودلالاتها، فإنّه من المؤكد أنّ بعض القوى المضادة للثورة لا تقاسمه أفكاره ولا تطلعاته، بل تركب شعبيته للإطاحة بالتجربة الديمقراطية برمتها، والإطاحة به لاحقا كأحد منتوجات هذه التجربة. وليست تجربة مصر التي لم تندمل جراحها عنّا ببعيدة.
ويظلّ التلبيس الأخطر في تكتيكات الثورة المضادة، هو استهداف الديمقراطية باسم محاصرة “الإسلام السياسي” التي تتمّ شيطنته كما أسلفنا. وهنا وجب الانتباه أيضا إلى أنّ هذا المصطلح جدالي فضفاض، وله سياقاته ووجوهه وتعبيراته المختلفة إلى حدّ التناقض. وأنّ بعض القوى الإقليمية التي تشيطنه اليوم ،كانت ولا تزال الداعم لبعض تعبيراته لعقود. وحتّى لا نذهب بعيدا ونتقيّد بالسياق التونسي، نقول بوضوح أنّ حركة النهضة غادرت رسميا مربع “الإسلامي السياسي” ونصّت لوائح مؤتمرها العاشر في 2016 وأكدت تصريحات قادتها، على أنّ هذه التسمية لا تستوعبها وهي تنخرط ضمن ما تسميه “الإسلام الديمقراطي”.
وقد كانت شيطنة حركة النهضة واستهدافها بالاستئصال طوال حكم بن علي حيلة وطريقا لاستئصال الديمقراطية في تونس. وكان الترخيص لحزب النهضة بعد الثورة ومشاركته المتقدمة في الحكم بناء على الشرعية الانتخابية التي حظي بها، عنوانا بارزا لمصداقية الانتقال الديمقراطي. بل كان رُشد النهضة وتعاطيها الإيجابي مع مقتضيات الانتقال واعتمادها الترفّق بالتجربة وانخراطها في سياسة التوافق والمصالحة الوطنية والإدماج، محلّ استحسان قوى داخلية وخارجية داعمة للثورة التونسية، ومصدر إثراء وإلهام إيجابي لبعض التجارب الأخرى في المنطقة.
ومن هنا أيضا نفهم سرّ استهداف حزب النهضة وزعيمه الشيخ راشد الغنوشي. فإن كنّا نقدّر مكانة “جماعة الإخوان المسلمين” رغم الاختلاف معها ونقد فكرها وتجربتها، وندين ما يلحق قادتها وأنصارها من اضطهاد وتشويه ظالم، فإنّنا نعدّ الحرص على وصف حزب النهضة بالتنظيم الإخواني، وربطه بتنظيمات غير تونسية ومحاور إقليمية، أجندة إقليمية ومحلية في استهداف الديمقراطية التونسية، بتعمّد خلط الأوراق وتغذية الصراعات الأيديولوجية في تصفية الحسابات السياسية، علاوة على ما في ذلك من وقوع في الإبهام الفكري والسياسي الذي لا يساعد على فهم المشهد الحقيقي.
ليست دعوات التحريض على حزب النهضة واستهداف التجربة الديمقراطية التونسية الأولى وقد لا تكون الأخيرة. ولكن رغم ما تحدثه من إرباك وما تخلّفه من صداع، فإنّ مآلها الفشل كسابقاتها. فلنحذر معشر الديمقراطيين والوطنيين مهما اختلفنا، أن نقع في شراك المتربّصين بنا جميعا، فلا ننقض غزلنا أنكاثا بأيدينا. فالربيع العربي يتعزّز رغم كل جهنّم التي تصبّ على رأسه، لأن مطلب الحرية أصيل في الشعوب، وللديمقراطية أظافرها وللمُنتخبين من يحمي شرعيتهم. وتونس بعد الثورة خير.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 157، تونس في 21 ماي 2020 (نسخة إلكتونية فقط)
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25