الأجندة المُجتمعية والاستحقاقات الاجتماعية والأزمة السياسية في الخطاب المنتظر لرئيس الجمهورية
|
تبدو الأجندة المجتمعية ضاغطة هذه الأيام بعد تصاعد ردود الأفعال المسجلّة على تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، واقتراب ذكرى عيد المرأة بتونس الذي يُنتظر فيه تفاعل رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي مع مضمون التقرير الذي أذن بإعداده. كما تتعدّد المؤشّرات على أنّ السنة السياسية الجديدة التي تنطلق في الخريف ستكون ساخنة جدا لأكثر من سبب. فالاستحقاقات الاجتماعية المستوجبة عن الحوار الاجتماعي حول الزيادات في الأجور في ظلّ ارتفاع مهول للأسعار وتزايد التضخّم بنسبة غير مسبوقة وارتفاع صوت منظمة الشغالين وتشكّي أصحاب الأعمال والمؤسسات وضغط الأزمة الاقتصادية الحادّ على توازنات المالية العمومية، والكلفة الاجتماعية للإصلاحات الاقتصادية الكبرى المستوجبة والتي تُوصف بالموجعة، ستجعل العلاقة بين المنظمات الاجتماعية أو بينها وبين الحكومة على درجة عالية من الخلاف والتوتّر.
ومن جهة أخرى فإنّ تسارع الأجندات السياسية للأحزاب والأفراد واللوبيات في سياق الاستحقاقات الانتخابية التشريعية والرئاسية لسنة 2019، ستلقي بظلالها على هذه الملفّات، بما يجعل هذه الأجندات المختلفة تتقاطع وتتشابك وتتأثر وتؤثر في علاقة بالأزمة السياسية المستمرّة. فكيف ستحضر هذه العناوين في الخطاب المنتظر لرئيس الجمهورية يوم 13 أوت 2018؟
لم يكد رئيس الجمهورية ينهي خطابه منذ نحو سنة بمناسبة الاحتفال بالعيد الوطني للمرأة يوم 13 أوت 2017، وما أعلنه من رغبته في مزيد تطوير التشريعات المتّصلة بالنّساء، لا سيما ما يتعلّق بمسألتي المساواة في الإرث وزواج التونسية من أجنبي غير مسلم، حتى انطلق جدال لم يتوقّف في الأوساط السياسية والحقوقية والمنابر الإعلامية وفضاءات التواصل الاجتماعي وحتّى العائلات والمجالس الشعبية، ليمتدّ إلى خارج تونس. وممّا زاد في حدّة الجدال واتّساعه هو بلا شكّ حساسية المسألة المطروحة في علاقتها بالإسلام وبالانقسام الفكري والثقافي غير الخافي في أوساط النخب التونسية عامّة. وقد عاد الجدال ليشتدّ خلال الفترة الأخيرة بعد تقديم اللجنة التي شكلها رئيس الجمهورية للغرض تقريرها وإعلانه للعموم مطلع شهر جوان الماضي.
ليس الباجي قائد السبسي أوّل من فتح نقاشا حول مسألة المساواة في الإرث وغيرها من التشريعات ذات الصلة بتحقيق المساواة الكاملة بين النّساء والرجال أو المتصلة بالحريات الفردية وعلاقة الخصوصية بالكونية، وإن سجل له التاريخ جرأة في ذلك. فقد كانت هذه المسائل موضوع عرائض ومبادرات تشريعية وجدال لا يتوقّف في الأوساط الحقوقية والسياسيّة والأكاديميّة وغيرها، قبل الثورة وبعدها. ولم تكن المسائل المثارة في التقرير مفاجئة للمتابعين والعارفين، رغم البعد الدرامي و”الخطيئة غير المسبوقة” التي يحاول بعض معارضي التقرير تسويقها. بل نزعم أنّ التقرير استفاد من أفكار وأعمال ومنتوج اشتغل عليه باحثون وناشطون وجزء من النخب التونسية منذ عقود. وليس من المبالغة أو المجاز الحديث عن أجندة مُجتمعية بتونس، لا تخفى علاقتها بالأجندة الدولية في الموضوع والتزامات الدولة التونسية تجاه الهيئات الإقليمية والدولية من ناحية، ومحاولة ترويض النموذج التونسي بعد الثورة عبر تطوير القوانين من ناحية أخرى. والمشكلة ليست في الأجندة بل في خلفياتها وأهدافها ووجهة المستثمرين فيها.
فتعهّد رئيس الجمهورية لهذه الأجندة يعطيها صبغة استثنائية بسبب موقعه في الدولة. فضلا عما يثيره توظيف الرئيس لهذه الأجندة في حساباته السياسية الخاصة أو ارتداداتها السلبية على مستقبله السياسي. وكذلك توظيف النخب المتحمّسة لهذه الأجندة المُجتمعية لأجهزة الدولة في صراعها مع خصوم لها في الفكر.
واعتبارا لحساسية بعض مسائل الأجندة المجتمعية وعلاقتها بالإسلام وبالهوية الثقافية الوطنية، كان رئيس الجمهورية حريصا في خطابه السابق على التأكيد على مرجعيّة الفصل الأول من الدستور واحترام مشاعر أغلبية الشعب من المسلمين “على درب الاجتهاد والتنوير والتدبّر السليم في شؤون الناس تأسيسا للعقد المجتمعي التونسي بما لا يتنافى في شيء مع تعاليم الإسلام السمحة نصّا وروحا”.
فحرص الرئيس على تحقيق المساواة التي نصّ عليها دستور 2014 يقتضي “تطوير مجلة الأحوال الشخصية في العديد من المجالات طلبا لتكريس المساواة بين المواطنات والمواطنين وفق ما دعا إليه ديننا الحنيف وما نصّ عليه دستورنا الجديد في فصله 21” كما جاء في خطابه، وحرصه على التوافق وضمان الاستقرار وحماية وحدة الشعب والدولة، جعله يخلص إلى أنّه “من المطلوب ومن الممكن تعديل قانون الأحوال الشخصيّة المتعلّق بالإرث بصورة مرحليّة مُتدرّجة حتّى بُلوغ هدف المساواة التامّة بين الرجل والمرأة”.
وإن كانت رسالة الرئيس واضحة، فإنّ اللجنة التي لم تعكس تركيبتها التنوع المطلوب في مثل هذه القضايا، جعلت أعضاءها يذهبون بعيدا وكأنهم يستغلون فرصة لتصفية حسابات مع خلفية ثقافية إسلامية كامنة وراء التشريع التونسي، فاستهدفوا مصطلحات بعينها واقترحوا أكثر من تسعين قانون جديد بين التعديل والاستحداث. وهذا التوسّع والاستعجال إلى حدّ الشطط يفسّر شططا مقابلا في رفض التقرير برمته وتشويه محتوياته والحملة على المشاركين في كتابته.
لذلك يظلّ من المهمّ وسط مظاهر الصّخب واللّغط والجدال المحتدم التي يثيرهما التقرير، خاصة بعد إخراج الصراع من المنابر إلى الشارع، ومن المحاججة إلى التحشيد، إن نؤكد أنّه مهما تباعدت الآراء فإنّ الاحتراب الأيديولوجي والاستقطاب الثقافي لا مبرّر لهما بين المؤيدين للتقرير أو المعترضين عليه. فهما مهدّدان للوحدة الوطنية والسلم الأهلية. ففي خطاب أنصار الفريقين مخالفات صريحة للدستور والقانون وعبارات أقرب إلى الحرب الأهلية الثقافية التي تعود بالبلاد إلى أجواء الاستقطاب المقيت وتيه العلمنة والأسلمة وما قبل سقوط جدار برلين، والمناخات التي وفّرت أرضية الإرهاب والاغتيالات السياسية وكادت أن تعصف بالثورة والسلم الأهلية منذ سنوات خلت.
وكم يبدو ضروريّا أكثر من أيّ وقت مضى، أن يكفّ البعض عن احتكار الحداثة والتقدميّة، أو احتكار الهوية والإسلام، واختطاف البلد بالوصاية عليه تحت هذين العنوانين أوغيرهما. فقد تأكّد أنّ الحداثة حداثات، وأنّ الإسلام أفهام وقراءات، وأنّ التيارات الفكرية والسياسية الأساسية لا خلاف بينها حول ضرورات التحديث والتقدم، لكن قد تختلف الخلفيات والمقاربات. كما أنّ الانخراط في دعم مسار الحريات والمساواة لا يعني التوافق على نمط محدّد في تكريسها.
فالتوافق الواسع حول الدستور لم يحسم الاختلاف حول الإسلام والحداثة؟ ولا حول الخصوصية والكونية؟ ولا حول الفرد والجماعة والحريات الفردية والمحافظة على الأسرة؟ ولا حول علاقة القيم ببعضها على غرار المساواة والعدل ولا علاقة التشريع بتطور المجتمع، وأيّهما يسبق الٱخر أو يتأثر به؟ وغير ذلك من المسائل النظرية المعقّدة، التي تشقّ النخب وليست الدولة طرفا في حسمها.
ويضاف إلى هذه التعقيدات النظرية التي ليست بالقليلة أو الهيّنة، تعقيدات الواقع المعيش. فالأجندة المجتمعية على أهميتها لا يجب أن تضيّع البوصلة الوطنية في الإصلاحات الاقتصادية ومخاطر الاستحقاقات الاجتماعية. فجميع استطلاعات الرأي تؤكد نخبوية الأولى والشعبية الواسعة للثانية. كما أن أولويات قرطاج1 وقرطاج2 وبرامج الأحزاب وخطاباتها تفيد نفس الاستخلاص.
وفي المحصّلة يبقى لرئيس الجمهورية الذي له حق المبادرة التشريعية، أن يستفيد من تقرير اللجنة بلا شك، ولكن أيضا أن ينصت جيّدا لنبض الشعب وبقية الآراء ويحسن تقدير أولوياتنا الوطنية وأوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية، وأزمتنا السياسية واستحقاقاتنا الانتخابية ليعلن توجهاته في خطابه المنتظر يوم 13 أوت 2018 القادم.
ومع أن كلّ مجازفة باستباق مضمون الخطاب ورسائله تظلّ مجرّد تخمينات، فإنّنا نرجّح أنّ رئيس الجمهورية سيقدّر جيدا حجم المجازفة في القضايا المطروحة بالتقرير و سيكتفي بما أعلنه سابقا من خطوة في دعم حقوق النساء في الميراث وتعديل الأحوال الشخصية على طريق المساواة في الحقوق والواجبات. ولكنه أيضا، رغم خصوصية المناسبة، لن يتجاهل في خطابه الأوضاع الصعبة والأزمة السياسية التي لا يساعد استمرارها على حسن التصدي لها ومعالجتها. ولا تُستبعد خطوة منه غي تفكيكها وزحزحتها.
“ويا خبر اليوم بالفلوس بُكرة بلاش”.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 69، تونس في09 أوت 2018.
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/38805774_1778643302211202_6065345608456077312_n.jpg?_nc_cat=0&oh=6d808764a4e2a047aa92b634b29ad64a&oe=5BCA664F