أزمة الهيئات الدستورية: أزمة خيار..أم أزمة مسار؟
جريدة الرأي العام، العدد 28، تونس في 26 أكتوبر 2017
تعيش بعض الهيئات الدستورية على غرار الهيئة العليا المستقلة للانتخابات مصاعب ومناكفات داخلية وخارجية تبعث على الانشغال حول مستقبلها. ولا تزال أغلب تلك الهيئات في وضع المؤقّت أو في عداد المطلوب ولم تر النور بعد، رغم انقضاء نحو أربع سنوات عن إقرار دستور الثورة. فهل يعكس هذا الوضع أزمة خيار سلكه المجلس الوطني التأسيسي بما يبررّ الحاجة إلى تعديل الدستور و تغيير النظام السياسي؟ أم إنّ الصعوبات الحاصلة لا تعدو أن تكون عوارض مسار متعثّر؟
مكاسب في الدستور الجديد
لا نبالغ ولا نخطئ حين نقول أنّ من أهمّ مكاسب دستور الجمهورية الثانية لسنة 2014 مقارنة بدستور الاستقلال لسنة 1959، ما تضمّنته فصول الأبواب الثلاثة المميّزة، وهي الباب الثاني في الحقوق والحريات والباب السادس في الهيئات المستقلة والباب السابع في السلطة المحلية. وقد نصّ الفصل 125 من الباب السادس على أنّ الهيئات الدستورية المستقلة تعمل على دعم الديمقراطية و”تنتخب من قبل مجلس نواب الشعب بأغلبية مُعزّزة، وترفع إليه تقريرا سنويا يناقش بالنسبة إلى كل هيئة في جلسة عامة مخصّصة للغرض” و”يضبط القانون تركيبة هذه الهيئات والتمثيل فيها وطرق انتخابها وتنظيمها وسبل مساءلتها”. وهذه الهيئات هي “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات” و”هيئة الاتصال السمعي والبصري” و”هيئة حقوق الإنسان” و”هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة” و”هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد”. وقد أعدّت وزارة العلاقة بالهيئات الدستورية مشروع قانون أساسي عدد 30/2016 متعلق بالأحكام المشتركة بين الهيئات الدستورية المستقلة، أُحيل على مجلس نواب الشعب بتاريخ 20 ماي 2016 و تعهّدت به لجنة التشريع العام . وصادق عليه مجلس نواب الشعب في نهاية دورته السابقة تحت تسمية “مشروع قانون أساسي يتعـلق بمجلة الهيئات الدستورية المستقلة”. وتمّ الطعن فيه لاحقا لدى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، التي أعادته إلى المجلس والذي ينظر فيه مجدّدا هذه الأيام. وبصرف النّظر عن الخلافات في تفاصيل هذا القانون ومدى ضمانه للاستقلالية التي نصّ عليها الدستور، فإنّ الاتّفاق حاصل حول أهمية هذه الهيئات ودورها الرقابي والتعديلي في ضمان الديمقراطية ودعمها. ولهذا الغرض أيضا تمّ التنصيص على أن هذه الهيئات تتركب من “أعضاء مستقلين محايدين من ذوي الكفاءة والنزاهة” ويتمّ انتخابهم بأغلبية الثلثين بما يعكس التوافق الواسع حولهم.
أزمة مسار متعثّر
من اللاّفت حقّا أنّه بعد نحو أربع سنوات من إقرار الدستور وبعد انقضاء أكثر من نصف المدّة النيابية لما “بعد المؤقت” لم يستكمل مجلس نواب الشعب وضع القانون المنظّم للهيئات الدستورية ولم ينتخب أعضاءها. فاستثناء “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات” التي تعمل بصورة عادية، فإنّ “هيئة الاتصال السمعي والبصري” و”هيئة حقوق الإنسان” و”هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد” مازال أعضاؤها معيّنين وتعمل بصورة وقتية. أمّا “هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة” فلا وجود لها أصلا بعد. وتشكو الهيئات الوقتية من ضعف الإمكانيات المادية وظروف العمل، ولا يخفى على المتابعين مردودها الضعيف جدّا عموما، حتّى لتكاد نتائجها تفرغ هذا المكسب الدستوري من محتواه ومن الآمال المتعلقة به. ومن الأمثلة الدالّة في هذا السياق التي تغني عن أيّة تعليقات أنّ “هيئة حقوق الإنسان” الموجودة منذ 2012 والتي أوكل لها القانون ضبط القائمة الرسمية لشهداء الثورة رحمهم الله تعالى، لم تفعل ذلك إلى عشيّة الذكرى السابعة للثورة المجيدة. أمّا فوضى الإعلام التي لا يخطئها متابع فهي الشاهد على أداء “هيئة الاتصال السمعي والبصري”. ولعلّ ما عاشته “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات” بعد استقالة رئيسها شفيق صرصار وعضوين آخرين، وصعوبات سدّ الشّغور بها وعدم انتخاب رئيس لها إلى حدّ اليوم، والخلافات داخلها والتجاذب بينها وبين البرلمان، والتجاذبات الحزبية ذات الصلة بذلك، وما سبّبه كل ذلك من تأجيل للانتخابات البلدية عشية انطلاقها ومن انشغال بالغ حول مستقبل المسار الانتخابي برمّته، دليل إضافي على تعثّر المسار وهشاشة الوضع الانتقالي الذي لم يُستكمل بعد.
خيار سليم .. لكن..
تظلّ مكاسب دستور الجمهورية الثانية قائمة نظريّا على الأقلّ، اعتبارا لما يتعلّق بها من قيم وما تضمنه من حقوق وحريات، وما تضعه من آليات لدعم الديمقراطية والحكم الرشيد وقطع مع عهد الاستبداد والفساد وتحقيق لأهداف الثورة. ومهما تعقّدت يوميّاتنا وتراءت لنا الصعوبات، فإنّ ذلك يظل مُتفهَّما ضمن مقتضيات صعوبات المرحلة الانتقالية، دون نفي للتقصير والأخطاء وبطء الوفاء بالتعهّدات وما تتطلبه المسؤولية في ظرفيّة مخصوصة. ولذلك لا نرى مبرّرا لدعوات النكوص والتشكيك في المكاسب الثابتة، باستغلال الصعوبات وتعثّر المسار للتشكيك في الاختيار والمطالبة بتعديل الدستور وتغيير نظام سياسي وضعه مجلس وطني تأسيسي ولم تُستكمل مؤسساته ولم تمض عليه ولو دورة نيابية واحدة. فهذان بابان مهمّان في الدستور أعني بهما السادس والسابع مازال معطّلين بالكامل، وهذه المحكمة الدستورية التي نصّت الأحكام الانتقالية من الدستور على إرسائها في أجل لا يتجاوز السنة بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية، لم تُستكمل بعد نحو ثلاث سنوات من الانتخابات. فكلّ الشواهد تدلّ على أنّ المشكلة في المسار وليس في الخيار، الذي لا يخلو من نواقص بالطبع، سيحين وقت تجاوزها.
ختاما
إنّ الخيار يظلّ سليما في دستور حظي بتوافق عريض، ولكنّ المطلوب تحسين أداء مختلف مؤسسات الحكم، سيما نسق عمل مجلس نواب الشعب في دورة برلمانية جديدة، بإعادة ترتيب أولوياته واستمرار التوافق بين كتله النيابية المختلفة في تأمين مستلزمات نجاح مسارنا الديمقراطي، الذي مازال المراقبون في الداخل والخارج يسجّلون تقدّمه الإيجابي الاستثنائي بالمقارنة مع غيره، رغم المخاوف المتزايدة بسبب الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية المتعاظمة، وبعض المؤشرات السياسية السلبية غير الخافية.
محمد القوماني