من السودان إلى الجزائر: ربيع عربي يتجدّد بإرادة شعبية أقوى

إنّ الحراك الشعبي الذي تعرفه دولتان من أكبر الدول العربية مساحة، مهما توقّعنا له من مسارات قد يأخذها، يعدّ بلاشكّ، موجة جديدة من ربيع عربي ستتفتّح زهوره ويصنع غدا ورديّا أفضل مهما كانت التقلّبات والعثرات. فلم يصدق حديث البعض عن ربيع عربي آفل، ألحقوا به جميع أصناف التشويه وعملوا على تبئيسه وتيئيس الناس منه. ولن تبق تونس، مهد الثورات العربية، حالة استثنائية، تشقّ طريقها إلى الديمقراطية، وسط مصاعب جمّة ومؤامرات داخلية وخارجية. فقد جاءت خلال الأسابيع الأخيرة، المسيرات المليونية السلمية في الجزائر، والتحركات المتصاعدة في السودان قبلها، والحرب الأخيرة في ليبييا، لتؤكد مجدّدا إصرار الشعوب على تحقيق الديمقراطية والتداول السلمي على الحكم عبر انتخابات حرة وتعدّدية وشفافة، ولتعزّز التجربة التونسية، التي تبقى مُلهمة، ولتضع المنطقة العربية مجدّدا على طريق الحداثة السياسية. فسيل الديمقراطية لم تعد تتحطّم أمواجه على الشواطئ العربية.
تصاعد الحراك الشعبي في الجزائر بسرعة لافتة، وكان حالة فريدة أدهشت المتابعين. ففي الجزائر فقط يصحّ الحديث حقيقة لا مجازا، عن تظاهرات مليوتية سلمية، جابت شوارع العاصمة والمدن الكبرى، خلال الجُمعات الأخيرة. بدأ الحراك برفض عهدة خامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وسرعان ما صعّد من سقف مطالبه إلى استقالة الرئيس والحكومة وتغيير نظام الحكم والطبقة السياسية برمّتها. ولم يكن لافتا فقط الحراك الشعبي المدهش في سلميته وتنظيمه وتصميمه، بل أيضا تفاعل الحاكمين في الجزائر، وخاصة تجاوب المؤسسة العسكرية مع المطالب الشعبية.
أكّد الفريق أحمد قايد صالح نائب وزير الدفاع قائد الأركان مرارا، وقوف الجيش إلى جانب مطالب الشعب، وطالب بتطبيق المادة 102 من الدستور -التي تعنى شغور منصب الرئاسة- والمادتين 7و8 اللتين تتحدثان عن أنّ الشعب مصدر كل سلطة. وجاءت استقالة الرئيس بوتفليقة إلى المجلس الدستوري يوم الثلاثاء 02 أفريل 2019، لتشكّل بداية انفراج لوضع صعب تطوّر بوتيرة سريعة. واجتمع البرلمان الجزائري بغرفتيه يوم الثلاثاء الماضي 09 أفريل ليثبت شغور منصب رئاسة الجمهورية، وزكّى رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح لتولّي رئاسة البلاد مؤقتا لمدّة أقصاها 90 يوما يشرف خلالها على التحضير لانتخاب رئيس جديد للبلاد، ولا يكون له حق الترشح للمنصب.
ومهما تباينت مواقف الجزائريين من صيغ انتقال السلطة وتحقيق إصلاحات سياسية مؤكدة، والتي تبقى من أنظارهم فقط، بعيدا عن أيّة وصاية أو تدخّل أو دروس من أحد، فإنّ المستقبل يبعث على التفاؤل. فشعب المليون ونصف شهيد، صاحب الأمجاد، والحريص جدّا على استقلال قراره الوطني، يبدو أنّه استفاد جيّدا من محنة سنوات الرصاص والدم في التسعينات، ولم يتنكّر لدور الرئيس بوتفليقة التاريخي في إقرار الوئام المدني وإخراج الجزائر من محنتها. وخلافا لتجارب أخرى واجهت فيها القوات المسلحة المتظاهرين العزّل، وتنكّر فيها أصحاب النفوذ لمطالب الجماهير الهادرة، احتضن الجيش الجزائري الحراك الشعبي وحماه، بما جعله يحافظ على سمعته الجيّدة لدى الجزائريين ويكون محلّ إجماعهم وتقديرهم، ويجنّب بلاده مآلات غير محمودة.
وحين يقف الجيش إلى جانب مطالب الشعب في الديمقراطية والإصلاح، على غرار التجربة التونسية، ويحتكم إلى الدستور، يكون عنصر ضمان لإنجاح المسار. كما أنّ في تصميم الحراك على ضمان انتخابات شفافة ونزيهة، من خلال هيئة مستقلة، وفي تفاعل الطبقة السياسية وتطوير مقترحاتها، بعد آخر للتفاؤل بانتقال هادئ يعزّز الديمقراطية والوحدة الوطنية بالجزائر.
وغير بعيد عمّا يحصل في الجزائر، وقبله في الزمن، يتصاعد الحراك الاحتجاجي في السودان، مطالبا بتنحّي الرئيس عمر حسن البشير، الذي تبدو الأوضاع الاقتصادية في أسوإ أحوالها، بعد ثلاثة عقود من حكمه، ورغبته في الاستمرار. فمنذ 19 ديسمبر 2018، وبعد أن رفعت الحكومة أسعار الخبز والوقود، تتوسع الاحتجاجات في الرقعة والعدد والفعاليّات المشاركة. وتجد الاحتجاجات دعما معلنا من المعارضة. وخلافا لما يحصل بالجزائر، عرفت التحركات في السودان سقوط شهداء وجرحى، وقد حاول المحتجّون مؤخّرا الاحتماء بالمؤسسة العسكرية. فمنذ 06 أفريل الجاري يُنظّم بالعاصمة الخرطوم، اعتصام مفتوح أمام قيادة القوات الجوية وقبالة جامعة الخرطوم، ويردّد المحتجون هتافات وشعارات تؤكد سلمية حراكهم ومطالبهم. وتدخّلت قوات الأمن مرارا لفضّ الاعتصام بالقوة، ممّا تسبّب في سقوط مزيد من الشهداء والجرحى، وممّا قد يدفع بالأوضاع إلى مزيد التعقيد. مع أنّ الدرس واضح.
وبعد أربعة أيام فقط من انتهاء قمّة عربية في تونس يوم 31 مارس الماضي، دعت إلى مصالحة عربية وإلى حلّ سلمي في ليبيا، شنّ المشير خليفة حفتر هجوما فاشلا على العاصمة طرابلس بغاية السيطرة عليها، ممّا تسبّب في معارك، على أكثر من جبهة، استعملت فيها مختلف الأسلحة بما في ذلك الطلعات الجوية. ويُعدّ هذا الهجوم ضربة موجعة للمسار السياسي الذي يقوده المبعوث الخاص للأمم المتحدة، غسان سلامة، كما يشكّل “فشلا ذريعا” لباريس التي نشطت كثيرا خلال الأشهر الأخيرة من أجل حلّ سلمي، وجمعت حفتر بالسرّاج، تمهيدا لتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية تنهي أزمة الشرعية وتساعد على استعادة ليبيا لعافيتها.
وقد جاء الهجوم على طرابلس قبيل عشرة أيام من انطلاق مؤتمر الحوار الوطني الجامع بمدينة غدامس تحت رعاية أممية، مما أثار استنكارا محليا ودوليا واسعا. وقد أبدت الجزائر توجّسا ممّا يحصل بليبيا بالتزامن مع ما تعرفه من أوضاع داخلية حسّاسة. ورغم تعقيدات الأدوار الإقليمية والدولية، فإنّ جهات ليبية عديدة في الغرب خاصة، لم تتردّد في اتهام دول بعينها، بدعم حفتر واستهداف الاستقرار والحل السلمي بليبيا. وتؤكد تلك الجهات تمسّكها بالدولة المدنية والخيار الديمقراطي، ورفضها للحلول العسكرية وتوحّدها في التصدي لأيّة محاولات لحكم استبدادي جديد.
وهكذا يتأكد ممّا عرضنا إليه بإيجاز عن مستجدات الأوضاع بالسودان والجزائر وليبيا، أنّ الخيط الجامع بينها، هو اتجاه تلك البلدان إلى مزيد الديمقراطية والإصلاح السياسي، مهما كانت السيناريوهات المحتملة لصيغ الانتقال. لذلك لا نبالغ حين نعدّ ما يحصل موجة جديدة لربيع عربي، سيعزّز ما تحقّق في موجات سابقة.
ورغم استحضارنا لكلفة تنافر الدولة والديمقراطية في البلاد العربية، إذ تاريخ الدولة عندنا هو تاريخ الاستبداد، ورغم مأساتنا إلى حدّ الآن في انهيار البلدان ثمن التخلّص من استبداد الحكّام، و رغم استشراف دراسات إستراتيجية لمراكز أبحاث ذات مصداقية، مستقبلا متشائما للمنطقة العربية عموما، التي يتزايد فيها الطلب الشعبي للحقوق والحريات وتعجز فيها الحكومات عن تلبية التطلعات، فإنّنا رغم كل ذلك لا نتردّد في تأكيد أنّ مطلب الديمقراطية سيستمرّ ضاغطا على حكام المنطقة، باعتباره استحقاقا تاريخيا، قد يتأخّر أو يتعثّر تحقيقه، لكنّه لن يضيع. فتضحيات الشعوب جيلا بعد جيل، لن تذهب سدى، وإرادة الشعوب لا تُقهر.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 103، تونس في 11 أفريل 2019
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/56606317_510688292795653_6047728369867423744_n.jpg?_nc_cat=102&_nc_ht=scontent.ftun3-1.fna&oh=478d246a4cd46386fbd3904f12070dd5&oe=5D3F86DC

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: