المقاومة تقلب المعادلة وتفرض توازن الرعب

ملحمة تاريخية وبداية النهاية للكيان الصهيوني

        تطوّرت المواجهات بين قوات الاحتلال الصهيوني الغاشم وجماهير الشعب الفلسطيني المقاوم، نهاية شهر رمضان المعظم وأيام عيد الفطر المبارك لهذا العام، لتخلق وضعا جديدا مفاجئا يقترب من انتفاضة جديدة على كامل جغرافيا فلسطين التاريخية، تلقى تعاطفا متزايدا في عواصم دول عديدة، بما يؤشّر على تغيّر إيجابي لمعطيات على أرض الواقع، ويبعث برسائل سياسية بالغة الدلائل في الداخل والخارج.

        1 ـ مقاومة الاحتلال  المهمة التاريخية التي توحّد الشعب الفلسطيني.

        انطلقت المواجهات من القدس الشرقية في علاقة بالقرار الإسرائيلي الظالم ضدّ سكان حي الشيخ جراح بمحاولة تهجيرهم قسرا أو اعتداءات الشرطة على المصلين المعتكفين بالمسجد الأقصى، لتمتدّ بسرعة إلى الضفة الغربية وأراضي 1948 بالداخل المحتل ضدّ الاعمال الاستفزازية لقطعان المستوطنين، وتطورت المواجهات لتخلق ملحمة جديدة للشباب الفلسطيني من الجيل الجديد، ولتتجاوب معها صواريخ القسام وسائر فصائل المقاومة الفلسطينية بغزة الأبية. فامتدت لأول مرة المواجهات المختلفة  بين قوات الاحتلال الصهيوني الغاشم وجماهير الشعب الفلسطيني المقاوم بما  يقترب حقيقة لا مجازا من انتفاضة جديدة على كامل جغرافيا فلسطين التاريخية، تجاوب معها فلسطينيو الشتات. وهذا مكسب جديد ورسالة بليغة بأنّ الحقّ الفلسطيني ثابت تتوارثه الأجيال حتى ينجلي الاحتلال، وأنّ مقاومة الاحتلال هي المهمة التاريخية التي توحّد الشعب الفلسطيني حتى النصر.. حتى النصر.. كما كان يردّد الزعبم الراحل أبو عمار رحمه الله تعالى.

        2 ـ انتفاضة جديدة على كامل تراب فلسطين تسقط سياسة الاستيطان.

        تفجّرت الانتفاضة الجديدة على كامل تراب فلسطين،  واهتزت فرائص الصهاينة الذين فاجأتهم ردود أفعال الشباب بأراضي 48 ليدركوا كما لم يحصل من قبل، أنّ الاحتلال البغيض عابر في الزمن. فلم تنجح سياسات الاستيطان  والتهويد وتشتيت الفلسطينيين في الخارج وقطع أوصالهم في الداخل بالجدار العازل والمعابر الأمنية والمستوطنات والإدماج الكاذب والتجويع والإغراء ونشر المخدّرات وبثّ الفرقة، لم تنجح هذه السياسات وغيرها ولن تنجح في طمس حقيقة الاحتلال وبشاعة الاستيطان وتوق أصحاب الحقّ إلى استرداد أرضهم مهما كانت الكلفة وطال الزمن.

        3 ـ انتفاضة تصيب موجة التطبيع الأخيرة في مقتل.

         جاءت الانتفاضة الجديدة وما لاقته من تعاطف عربي وإسلامي ودولي لتصيب موجة التطبيع الأخيرة في مقتل، ولتخلق وضعا سفّه بسرعة فائقة ما تمّ الاشتغال عليه والترويج له زمن حكم ترامب من صفقة القرن وتصفية القضية الفلسطينية. فزحف الأردنيين واللبنانيين نحو حدود فلسطين، والتعاطف  العربي والإسلامي الواسعين في وسائل التواصل الاجتماعي ومختلف منابر الإعلام، وجرأة الموقف في بعض العواصم العربية والإسلامية، والمظاهرات الحاشدة في بعض عواصم الدول الكبرى رغم مخاطر جائجة كورونا، رسائل بليغة في انتصار القيم على المال وانتصار الدم على السيف وانتصار الحقيقة على التضليل.

         وسيظل خطاب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس اسماعيل هنية بالعاصمة القطرية الدوحة وسط حشود من المؤيدين للحق الفلسطيني من مختلف الجنسيات، محطة مضيئة في جرأة الموقف وانتصار التعاطف مع المقاومة الفلسطينية على الهرولة إلى التطبيع السافر والمهين مع دولة العدوّ الصهيوني.

        4 ـ صواريخ المقاومة محلية الصنع تغير قاعدة الاشتباك.

        كانت النوعية الجديدة من الصواريخ والطائرات المسيّرة التي استخدمتها خاصة الفصائل المسلحة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، والمصنّعة محليا، والتي طالت عمق المدن المحتلة ومطارات العدو وألحقت أضرارا غير مسبوقة بالصهاينة، كانت نقلة نوعية في مشهد المواجهات رغم اختلال موازين القوى، وتغييرا حقيقيا لقاعدة الاشتباك بين الفلسطينيين والصهاينة. فلأول مرة تخرج صواريخ المقاومة من غزة دفاعا عن القدس والمسجد الأقصى، العنوان الأبرز للصراع الذي يتجاوز فلسطين. ولأول مرة تربك المقاومة العدو وتجعله يدفع فاتورة غالية لعدوانه وتحرج حكام إسرائيل أمام ناخبيهم. وليست التحركات الأمريكية والأوروبية المؤيدة لإسرائيل الحريصة على وقف سريع لإطلاق النار إلاّ  دليل  قاطع على ضربات المقاومة الموجعة لإسرائيل والكلفة الباهظة جدا لعدوانها على غزة وعلى الشعب الفلسطيني. فقد سقطت نهائيا أسطورة القبة الذهبية والجيش الذي لا يقهر وإسرائيل التي تهاجم وتكون بمأمن من الردود. وليس الإمعان الصهيوني في العدوان على غزة وكثافة النيران في الاستهداف العشوائي للشعب وللمنشآت، سوى بحثا عن أهداف عسكرية قد تأتي بالصدفة لتصنع انتصارا قد يغيير المعادلة، أو إلحاق أضرار فادحة بالمدنيين والممتلكات العامة والخاصة، للاستثمار في اليأس والبؤس للنيل من سمعة المقاومة.

5 ـ  المقاومة الفلسطينية تظلّ أيقونة للنضال وملهمة للأحرار وبوصلة المشهد.

        بعد التراجع الملحوظ خلال السنوات الأخيرة في الاهتمام العربي والإسلامي بالقضية الفلسطينية بسبب الانشغالات المحلية القطرية، والانقسامات الحادة وسياسة المحاور المدمّرة لمقوّمات وحدة الأمة، وفي ظل الاختراق الصهيوني غير المسبوق، والترويج لنهاية “الإسلام السياسي” و”نهاية الأيديولوجيا” و”نهاية الربيع العربي” وغيرها من المقولات المعبّرة عن “أمانيّهم”،  جاءت المواجهات الأخيرة على أرض فلسطين، لتكشف أنّ حقائق الواقع وإرادة الشعوب على خلاف ما يتمنونه. فقد أرسل الفلسطينيون موجات إيجابية سرت معها روح جديدة داخل الأمة بأسرها وتجدّد معها الأمل. ونفّست فلسطين الجريحة عن بقية أجزاء الوطن العربي، وأفاض شعب الجبارين عن بقية شعوب الأمة.

        إذ عاد مفكّرون ومثقفون وسياسيون عرب إلى المشهد بروح عالية في رفض ثقافة الاستسلام ومقاومة التطبيع ودعم ثقافة المقاومة. فقد تجدّد الأمل بأنّ “تحريرها كلها ممكن” على نحو ما جاء في فيديو الشاعر الاستثنائي تميم البرغوثي، الذي لاقى رواجا واسعا. وبات على الأقلّ فكّ الحصار على غزة وتحرير الضفة الغربية والقدس الشرقية في المتناول في هذه المرحلة، إذا توحّد الموقف الفلسطيني وتمّت مراجعة بعض الأخطاء على نحو ما كتب المفكر الاستراتيجي منير شفيق وغيره. وعادت الجماهير العربية والإسلامية إلى الساحات لتتظاهر دعما للحق الفلسطيني ورفضا للعدوان الصهيوني وضغطا على الحكام العرب من أجل مواقف أقوى.

        ومرة أخرى أبانت المواجهات الأخيرة على أرض فلسطين أنّ المقاومة الفلسطينية تظلّ أيقونة للنضال وملهمة للأحرار وبوصلة المشهد. ولا يخفى على أيّ متابع أنّ الموقف من الحق الفلسطيني والعلاقة بالعدو الصهيوني بوصلة الرأي العام العربي والإسلامي في رفع شأن أشخاص أو أحزاب أو تيارات فكرية أو حتى دول.

6 ـ نحو وعي عروبي جديد يتصدى للاختراق الإعلامي الصهيوني ويعدّ لمواجهة حاسمة.

في ظلّ الخيبات المتتالية بدءا بهزيمة 1967 ومرورا بسقوط بغداد واحتلال العراق سنة 2003، وتراجع تأثيرات الأيديولوجيات اليسارية والقومية والإسلامية، وانتهاء بمسارات الانقلاب على ثورات الربيع العربي أو تحريفها، اكتسحت الساحة السياسية والثقافية والإعلامية مفاهيم ومُفردات منها الاستقرار والإرهاب والاعتدال والتسامح والسلام  وتقدير موازين القوى والواقعية وعدم التدخّل في شؤون الآخرين والعولمة ونهاية الأيديولوجيات  والنضال المدني والمجتمع الدولي وعدم تغيير النمط المجتمعي وهيبة الدولة… وكلّها وغيرها كلمات حقّ قد يراد بها باطل. وغابت في المقابل مصطلحات ومفردات أخرى، مثال الجهاد والتحرير والوحدة والمشروع القومي والعدوّ الصهيوني والاستقلال الوطني والثقافة الوطنية وطبيعة المعركة  وغيرها من جهاز مفاهيمي، لا تُعدم فوائده، إذا خضع للمراجعة والتطوير.

وكان من نتائج “الثقافة الجديدة” الخلط في المفاهيم وتشويه الوعي  وفقدان البوصلة في أوساط النخب والرأي العام وتراجع الوعي بطبيعة المشروع الصهيوني، إلى حدّ حصر الصراع بين إسرائيل وفصائل من المقاومة الإسلامية، والجنوح إلى سياسات قُطرية قاصرة لا تلبث أن تتحول إلى جزء من مخطط العدوّ. فضمُر الشعور القومي والإسلامي. وضاعت في الأثناء فلسطين وأطلّ “الاستعمار” برأسه من جديد.

وكانت الآلة الإعلامية المعادية تشتغل في الأثناء عبر بثّ الفُرقة والطائفية وتغذية الاحتقان والتشكيك في الذّات وشلّ الإرادة وتعميق الفجوات وتشجيع الاستقطاب والتطرف والنزعات الاستئصالية… ونجح العدوّ في ضرب بعضنا ببعض، وربما صار القبول بالتطبيع مع الكيان الصهيوني أسهل من التقريب بين الفرقاء الإيديولوجيين والسياسيين من الإسلاميين وخصومهم من العلمانيين.

        لقد راكم الفكر العربي المعاصر منذ هزيمة 1967 من الإنتاج والنقد وحقّق من التقارب بين مختلف توجهاته ووضع من المشاريع ما يجعلنا نتطلع بتفاؤل إلى مستقبل أفضل بكثير. فهل تنجح نخبنا هذه المرة في استخلاص الدرس والاعتماد على الإنجازات المحققة، لتصوّب وعيها وتتصدى للاختراق الإعلامي الصهيوني، وتجمع كلمتها وترصّ صفوفها وترعى الاختلاف النظري والتعايش الديمقراطي بينها، وتستنهض الهمم وتعدّ لمواجهة حاسمة مع العدو؟ فصمود المقاتلين في الثغور من صمود المثقفين في المواقف.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 206، تونس  في  20 ماي 2021     

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: