التحديات الاقتصادية والتنمية السياسية
يسهل على أي متابع للشأن الاقتصادي ، و المطلع على التقارير الوطنية والدولية ، والمتأمل في الأرقام في هذا المجال ، أن ينتهي إلى أن تونس ستواجه أوضاعا صعبة للغاية في أكثر من قطاع و خلال فترة وجيزة قادمة . فلماذا تخفي الحكومة الحقائق عن الشعب ؟ و تكتفي بالتفاخر بما أنجز في الماضي و إطلاق الوعود المتفائلة للمستقبل ؟ و لماذا تترك المعارضة المجال الاقتصادي للحكومة وحدها تقول فيه وتدعي ما تشاء ؟و لماذا لا تقدم المعارضة نقدا دقيقا في هذا المجال و لا ترفع مطالب محددة و لا تقدم مقترحات بديلة كما تفعل في الشأن السياسي ؟ تلك أسئلة نروم ملامستها بما يتيحه المقام .
تعددت خلا ل الفترة الأخيرة حالات غلق مصانع للنسيج و تسريح عمالها، وأمام كارثية الوضع و انسداد الأفق يلجأ المسرحون إلى اعتصامات بمؤسساتهم المتوقفة على العمل ، و ربما الإضراب عن الطعام أحيانا ، للفت النظر إلى مشكلاتهم و محاولة فرض شروط أفضل للتفاوض في مستقبلهم. لكن المطلع على حقائق الأمور فيما يخص تداعيات تفكك الاتفاقية متعددة الألياف في قطاع النسيج مثالا ، والتي ينتهي العمل بمقتضياتها سنة 2005 يعلم أن ما يحصل ليس سوى بداية ، و أن قطاعا بهذا الحجم و الحساسية ، و الذي يشغل مئات آلاف العمال ، و كان متنفسا للاقتصاد في فترة السبعينات و ما تلاها ، آخذ في الانهيار التدريجي ، وان شروط المنافسة الدولية لن تتيح بأية حال للمستثمرين في هذا القطاع الاستمرار في مشاريعهم بالمقاييس المعمول بها . و أن حجم المشاكل الاجتماعية في هذا المجال سيكون أكبر بكثير خلال الفترة اللاحقة .
على صعيد آخر تبدو الصعوبات المالية التي تعاني منها صناديق التغطية الاجتماعية بسبب تراجع المداخيل وارتفاع النفقات مرشحة لمزيد التفاقم ، بما يعنيه ذلك من تهديد جدي للاستقرار الاجتماعي في حالة عجز الصندوق القومي للضمان الاجتماعي مثالا على أداء وظائفه الأساسية.
مشكلة أخرى لا تقل أهمية عن سابقاتها ، تلك المتصلة بالإمكانيات الحقيقية للتشغيل التي لا ترتقي في أفضل وجوهها ـ بالمعطيات الحاليةـ إلى الاستجابة لحجم الطلبات . و نخص بالذكر هنا مشكلة بطالة الخريجين من أصحاب الشهادات العليا المرشحة هي الأخرى لمزيد التفاقم بما تعنيه من أزمة حقيقية للمؤسسة التعليمية في علاقتها بسوق الشغل . هذه المشكلات على سبيل المثال لا الحصر ، على اختلافها تحيل إلى حل واحد و هو تنمية الاستثمار ببلادنا، و هنا مربط الفرس كما يقال . أعني هنا التحدي الحقيقي للحكم والمعارضة في آن واحد .
فالحكومة المشغولة بدفع الاستثمار و مواجهة المشكلات الاقتصادية ، تصم آذاننا منذ سنوات بالدعوة إلى التأهيل الشامل للمؤسسات ، غير أنها لا تجرؤ على الإقرار بالحاجة إلى أن يشملها هذا التأهيل في أدائها و طريقة حكمها . و أن التأهيل السياسي جزء من التأهيل الشامل، و أن الديموقراطية بما تعنيه من تحرير الإعلام و صدق الخبر و استقلال القضاء و ضمان حقوق المستثمرين و سيادة القانون وشفافية التصرف في المال العمومي وحياد الإدارة … شرط أساسي للتشجيع على الاستثمار، وانه لا تنمية اقتصادية دون تنمية سياسية . أمّا ا لمعارضة المشغولة بقضايا الحريات و حقوق الإنسان ، و المستهدفة في وجودها وابسط حقوقها ، والمستنزفة في الدفاع عن شرعيتها ، فهي لم تهتد بعد إلى سبل إشراك الجماهير الواسعة في همومها ونضالها ، ولم تدرك الخيط الرفيع الرابط بين مطالب الحريات الفردية والعامة وبين هموم الشرائح الاجتماعية الواسعة المهددة في قوتها، و الباحثة عن مصادر عيشها والمتطلعة إلى من يلامس مشاغلها الحقيقة و يفتح الآمال أمامها . و انه لا مستقبل لهذه المعارضة إلا في القيام بوظيفتها في جميع المجالات ، وليس في ملفات سياسية محددة فقط، و أن إشعاعها رهين ظهورها كقوة نقد واقتراح في المجال الاقتصادي والاجتماعي أساسا .
في انتظار هذا وذاك يبقى مطلب دفع الاستثمار ببلادنا و رفع التحديات الاقتصادية التي تواجهنا مشروعا وطنيا على غاية الأهمية . نعتقد أن مناخا من الديموقراطية والثقة بين الشعب والحكومة والحوار الوطني الواسع وحده الكفيل بتوفير شروط معالجة استراتيجية له . و أن روحا وطنية جديدة نحتاج أن تسري فينا، في عالم يتصارع بقـدر ما يتقارب ، و يفرض التكتل بقـدر ما يفرض الاندماج . وان ثقـتنا بأنفسنا وقـدرة كفاءاتنا وحدها قارب النجاة فيه .
محمد القوماني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جريدة الموقف (أسبوعية تونسية) العدد 255 بتاريخ12 مارس 2004
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25