يوميّات الزلزال السياسي بمصر: ولا بدّ للثورة أن تنتصر

يوميّات الزلزال السياسي بمصر:

ولا بدّ للثورة أن تنتصر

 

مجلة “الإصلاح” الالكترونية  بتاريخ 12 جويلية 2013.

وجّهت الانتكاسة  السياسية  في مصر ضربة مُوجعة للمسار الانتقالي الديمقراطي  ولآمال المصريين والعرب عموما في القطع مع منظومة الاستبداد والفساد وتدشين عصر الديمقراطية بعد الثورات الشعبية السلمية التي أطاحت برؤوس الدكتاتورية. لقد كانت احتجاجات ملايين المصريين بالميادين على سياسات الرئيس محمد مرسي والمطالبة برحيله يوم 30 جوان 2013 عنوان أزمة سياسية حادة ومؤشرا واضحا على فشل الحكّام الجدد في تحقيق أهداف الثورة والاستجابة لتطلعات عموم الشعب وعلى خيبة أمل بعد أكثر من سنتين من انتصار الثورة. وكان احتشاد ملايين من المصريين في ميادين أخرى مؤيدين للرئيس مرسي، بالتوازي مع المعارضين له، علامة انقسام حادّ واضح في الشعب المصري ونخبه ومؤشرا بالغ الخطورة على حالة الاستقطاب التي لم تخفي الشعارات والتصريحات والخطب في الميادين خلفياتها الأيديولوجية والثقافية. وخلال أيام قليلة جدّا من المواجهة السياسية بين المعارضين والمؤيّدين جاء انقلاب العسكر مدعوما بالأمن وجيوب القضاء الفاسد والفلول والإعلام المضاد والتمويل المشبوه ومساندة جهات خارجية، ليجهض في نفس الوقت احتجاجات الشباب الثائر وتطلّعه المشروع إلى تصحيح المسار وليجهض بالتوازي عملية الانتقال الديمقراطي المدني ويسرق الثورة، ويُحبط الآمال. لكن ردّة فعل المصريين الذين تضاعف عددهم في الميادين وخرجوا  بالملايين في مختلف محافظات مصر رافضين للانقلاب العسكري ومطالبين بالعودة إلى الشرعية الانتخابية واستمروا في الاعتصام السلمي، والمواقف السياسية من الانقلاب في الداخل والخارج، عناصر قد تعيد خلط الأوراق وتفتح آمالا جديدة أمام مستقبل الديمقراطية في مصر وسائر البلاد العربية. فمن مزايا المحن تمحيص الناس، وفي المواقف المتقابلة مما يحصل في مصر مناسبة للفرز السياسي، ليس على أساس تقدير المواقف وتقييم السياسات والأفراد، فذلك أمر يظل نسبيا ومقبولا ولا ضير فيه، ولكن الفرز الأهم هو على أساس الانتصار للقيم التي من المفترض أنّ النضال السياسي يصدر عنها ويعمل من أجلها. وفي مقدمة مقاييس هذا الفرز المحمود الانتصار لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والانحياز للثورة والاجتهاد في تحقيق أهدافها.

مخاطر الاستقطاب

لا يخفى على أيّ متابع موضوعي للأوضاع في مصر بعد انتصار ثورة 25 يناير المجيدة، أنّ الاحتقان السياسي خلال الأيام الأخيرة، الذي وصل إلى درجة تهدّد فعلا بالمواجهة، يرجع في سببه الرئيسي إلى حالة الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي، بما هي تعبير عن التنافي والتصادم، والتي حصلت قبل الانتخابات وبعدها واستعادت معارك “العلمنة” و”الأسلمة” التي قسمت النخب العربية لعقود ماضية وتسببت في معارك دامية وعقود من الاضطهاد السياسي، والتي ظننا أن النزعة النقدية الأخيرة في الفكر العربي المعاصر والمراجعات التي حصلت في مُختلف المدارس الفكرية، والثورات على الاستبداد والفساد التي وحّدت الجميع الأطياف، قد جاوزت بنا مخاطرها وأدخلتنا عصر ديمقراطية ما بعد العلمنة والأسلمة.

فنزوع الإخوان المسلمين، والتيار الإسلامي عموما، إلى إثارة معارك وقضايا تعود إلى تلك الحقبة، وتكرار مواقف غير مطمئنة لخصومهم الأيديولوجيين، ومؤشرات توجّههم إلى احتكار السلطة والانفراد بتحديد ملامح المرحلة الانتقالية ومستقبل مصر، والاكتفاء بالشرعية الانتخابية، أساسا للحكم في مرحلة انتقالية، وعدم الانتباه إلى أهمية التوافق وإشراك المنافسين،  جعلهم في مواجهة مخالفيهم مجتمعين. هذا بالإضافة إلى أخطاء فادحة ارتكبها الرئيس محمد مرسي، ومن ورائه جماعة الإخوان المسلمين، وعلى رأسها الإعلان الدستوري المخيف الذي تم التراجع عنه لاحقا بعد عناد، ومواقف في السياسة الخارجية، لاسيما الموقف مما يحصل بسوريا، وقبل ذلك كله الفشل في مخاطبة  عموم الشعب المصري ومصارحته وكسب ثقته والتقدم به ومعه  في الاستجابة لتطلعاته، إلى جانب سوء تقدير وزن الخصوم وقدرتهم على التأثير، وخاصة القوى المضادّة للثورة وجيوب الدولة العميقة. فكانت خيبة الأمل وكانت الاحتجاجات التي لا تخفى أدوار القوى المضادّة للثورة في تأجيجها، واستغلال المعارضة للإعلام المنحاز ضد الحكم الجديد في تضخيمها وتوظيفها. حتى صار خطاب المعارضة في أغلبه مجاراة للمزاج  الشعبي الغاضب وتأليبه، ولو بافتعال المعارك أو تغيير المواقف بما لا ينسجم مع المنطلقات والمبادئ، وعدم التورع إن لزم الأمر عن تحريض المؤسسة العسكرية أو حتى الأمنية في الداخل، والتحريض الخارجي بالنفخ في الأخطاء أو  مهاجمة الحلفاء أو تثبيط الشركاء. وهكذا صار رفض كل ما يأتي من السلطة شغل المعارضة التي لم تطوّر من جانبها أية بدائل.

ولعل هذا المقتطف من دراسة أعدتها منذ أشهر “وحدة تحليل السّياسات” في “المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات”، تؤكد ما ذهبنا إليه. إذ تذكر الدراسة أنّ “القوى السياسيّة المعارضة من يساريّة وقوميّة وليبراليّة وغيرها، والتي اجتمعت تحت سقف ما بات يُعرف بـ”جبهة الإنقاذ الوطني”، تبنّت سلوكًا سياسيًّا شبيهًا بذلك الذي اعتمده الإخوان المسلمون، فسرعان ما دخلت هذه القوى على إثر نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسيّة (مُحفّزة بما عكسته تلك النتائج من تراجع شعبيّة الإسلاميّين) في لعبة المعارضة المُطلقَة للتيّار الإسلاميّ. لقد ارتكبت هذه القوى السياسيّة الخطأ نفسه الذي سار عليه الإخوان المسلمون.”1

لقد أكدنا مرارا أن استقطاب المشهد السياسي بين حكومة ومعارضة، نراه غير صحّي في سياق تأسيسي، يقتضي شراكة لا تطمس التعددية وحق الاختلاف.  فالأطرف الحاكمة مهما كانت شرعيّتها، لا يمكن أن تستأثر بالمرحلة لوحدها. والشرعية الانتخابية غير كافية لممارسة السلطة. إذ لا يمكن الحكم بمنطق الأغلبية في غياب اتفاق بين جميع الأطراف على قواعد إدارة الحكم.  والتوازن يضل ضروريا للمجتمع في كل الأحوال. وليس بإمكان طرف، ولا من المصلحة في شيء، أن يعمل على إلغاء غيره.

وانطلاقا من كل تقدم، وفي ضوء تنامي الاحتقان السياسي بمصر خلال الأيام الأخيرة، لم نتردّد في القول بأنه في كل الأحوال ومهما كانت الدوافع والشعارات، فإننا ننظر إلى أية محاولة لإسقاط رئيس منتخب عن طريق التمرد والتظاهر في الشارع، وإلى التماس النخب شرعية سياسية للحكم بغير الانتخابات والعمل على استبعاد الإخوان من الحكم بغير صناديق الاقتراع، سيكرّس في مصر صعوبة إضافية في الحكم الديمقراطي، ويعدّ انقلابا على الشرعية وعلى الانتقال الديمقراطي ودفعا نحو العنف السياسي والنفق المظلم في المنطقة العربية بأسرها.

الانتخابات أولا وأخيرا

ليس من طبعي أن أرتاح للأجوبة الجاهزة لكل مُعضلة، لذلك كنت أتابع الأوضاع في مصر دون أن أخفي ما أشعر به من فتنة في العقل والوجدان، وأكتب بعض التعليقات شهادة على العصر وعلى نفسي في هذه المرحلة الدقيقة وهذا المنعرج الذي تمر به الثورة في مصر وسائر البلاد العربية. إذ لا يجب أن يغيب عنا أبدا أننا في مرحلة تأسيسية ولسنا في أوضاع عادية مستقرة. فمصر التي نتابع أوضاعها شهدت محطات انتخابية عديدة بعد الثورة، بين تشريعية ورئاسية واستفتاء وقد باحت صناديق الاقتراع بنتائجها التي تقدم فيها الإخوان عموما على خصومهم السياسيين. وإن كنا لا نجزم باتجاه الرأي العام الآن، فإننا لا نختلف على البديهيات مثل القول بأن الانتخابات ليست تفويضا مطلقا أو أن الناخبين من حقهم سحب ثقتهم في أية مرحلة أو أن الأداء المقنع للمسؤول السياسي هو أساس شرعيته…إلخ،  لكن ما يجب استحضاره في تحليل المشهد المصري هو  أن الشعب منقسم فعلا بين مناهض ومؤيد للرئيس محمد مرسي، ولا تصح المقارنة بين مبارك ومرسي في هذه الحالة، فشتان بين مغتصب للحكم لأكثر من ثلاثة عقود وإرثه في الاستبداد والفساد، وبين فائز في انتخابات شعبية حرة وتعددية وشفافة منذ سنة فقط. كما أننا في مرحلة تأسيسية نودّ أن نرسي فيها قواعد للتعايش الديمقراطي الجديد علينا. هذا إضافة إلى أنّ تراجع شعبية الرؤساء في البلدان الراسخة في الديمقراطية، لم يكن يوما سببا في إقالتهم قبل نهاية دورتهم.
فالرئيس محمد مرسي يؤيده نصف الناخبين تقريبا، سواء اعتبرنا نتائج صناديق الاقتراع أو مؤشرات ميادين الاحتشاد، ويعارضه النصف الآخر بنفس المقاييس. وفي النصف المعارض توجد القوات المسلحة من جيش وشرطة ويوجد الإعلام ورجال الأعمال والخصوم السياسيون مجتمعين وأطراف أخرى وجهات مساندة. فهل كان المطلوب التمسك بالشرعية الانتخابية والدستورية ويبقى مرسي رئيسا لمصر في انتظار الموعد القادم للانتخابات، وأن تعمل المعارضة بالآليات الأخرى المتاحة؟ أم كان لا بد أن يستقيل مرسي ولا يُنصت لمؤيديه، نزولا لحكم موازين القوى غير الانتخابية التي ترجح كفة خصومه؟ ولو فعل هذا هل تبقى الانتخابات التي تتعادل فيها أصوات الناخبين أساسا للشرعية الحكم؟
لم يكن مهمّا، أمام الحشود التي تملأ الميادين بالملايين بين معارض ومؤيد، إلى من ستكون الغلبة؟ فهذا مظهر للتنافس السياسي والصراع الديمقراطي بعد الثورة، ولن يكون انتصار أي فريق حلا للمشكل، وكان المنتظر إفساح المجال للحوار والضغط المتبادل حتى الوصول إلى تسوية أو توافق ما لا يبدو مستحيلا. كان الخوف قويا من العودة مجددا إلى منطق حكم الغلبة الذي ساد في ربوعنا قرونا، إذا أصبح التحشيد بالميادين واستعراض القوّة والترويع والتخويف والعنف المصاحب بديلا عن الانتخابات ونتائج صناديق الاقتراع. فمن معاني المواطنة أن يتساوى المواطنون في أصواتهم، ولا قيمة للسلطة والجاه والقوة مهما كانت، في التمييز بين أصوات الناخبين وترجيح كفة على أخرى. لذلك يُقال أن الديمقراطية حكم الأغلبية. وهذا في الحقيقة وجه من وجوهها.

كتبت منذ فترة طويلة ما نصه أن “الربيع العربي لم تكتمل حلقاته ولم تُثبّت أركانه، وما زال في إطار الممكن الذهني وليس في الواقع المتحقق. ولئن تعدّدت دوافع الثورات وامتزج فيها الاجتماعي والاقتصادي بالسياسي، ولئن تصدّرت مطالب التشغيل والكرامة والعدالة في التنمية وتحسين مستوى العيش وحماية الحريات الفردية والعامة وتأمين حياة الناس وممتلكاتهم، هذه الثورات أثناء اندلاعها وبعد انتصارها، فإننا في ظل صعوبات الانتقال وتعقيدات الواقع الداخلي والخارجي  وإزاء ما يُحاك من مؤامرات ضدّ الثورات وأمام المخلفات المدمّرة للعهد البائد والتنازع حول الشرعية الجديدة، في ظل هذه التحديات جميعا، نحتاج إلى ترتيب للأولويات نتوافق عليه ويكون بوصلة لرفع مختلف التحديات وتأسيس عصر جديد. ولا أتردّد في هذا السياق في التأكيد على أن المحافظة على مكسب الانتخابات الحرة والقبول بمقتضياتها وتثبيت المسار الديمقراطي هو البوابة لتحقيق بقية الأهداف ورفع سائر التحديات تدريجا.

فالديمقراطية التي دشّنّاها بانتخابات حرة وتعددية وشفافة تشكّل مبدئيا ضمانة أساسية لتكريس سلطة الشعب وجعله المرجع لأيّة شرعية سياسية والحكم في تقييم الأفكار والمقترحات والبدائل. فطالما استمرت تلك الانتخابات قائمة، ظل التداول على الحكم مضمونا وظل المتنافسون على الحكم يستحضرون كلمة الناخبين ويعملون تحت مراقبتهم ويجتهدون في التفاعل مع مطالبهم وتطلعاتهم. وبذلك تكون الديمقراطية بوّابة لولوج بقية القضايا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ومعالجتها. والخطر كل الخطر في مرحلة ما بعد الاستبداد، أن يتنكر بعض الفاعلين لنتائج الانتخابات، فيعمدون إلى محاولة إبعاد الإسلاميين من السلطة بطرق غير مشروعة، مهما حُبكت سيناريوهاتها. كما الخطر كل الخطر في أن ينقلب الإسلاميون على الديمقراطية التي جاءت بهم إلى الحكم، على غرار تجارب عربية مرّة في هذا السياق. وبذلك تكون الثورات قد غيّرت الحاكمين ولم تغيّر الحكم.”2

لن نستطيع إنكار أن محمد مرسي أول رئيس عربي منتخب في تاريخنا الحديث في انتخابات شعبية حرة وتعددية ومباشرة وشفافة ولم تمض على حكمه سوى سنة واحدة، وبالتالي فإن  الدفاع عن شرعيته في مواجهة أية محاولا ت انقلابية عليه، هو دفاع عن المبادئ وقواعد التأسيس، ولا علاقة له بالحكم على أداء مرسي ولا على فكر الإخوان ومشروعهم.

لا لحكم العسكر
كان الانقلاب العسكري الفجّ على المسار الديمقراطي في مصر بقيادة الفريق الأول عبد الفتاح السيسي وبمباركة رمزي المؤسستين الدينيتين الأزهر والكنيسة وتعميد ممثل جبهة الإنقاذ ورجل أمريكا محمد البرادعي، والذي أعلن عنه مساء بوم الأربعاء 4 جويلية 2013 ، زلزالا سياسيا وضربة موجعة للثورات العربية الجديدة ولمسار الانتقال الديمقراطي بمصر.

أعلن العسكر، صاحب “الرؤية الثاقبة” كما وصف نفسه في بيان القوات المسلحة، تعطيل العمل بالدستور الذي صوّت له أكثر من 60% من المصريين ، ومع ذلك أعطي الرئاسة لرئيس المحكمة الدستورية الذي أقسم لاحقا أنه يحترم الدستور. وتلك أولى المفارقات. كما كان من بين نقاط خارطة الطريق التي أعلنها، والتي لم تختلف جوهريا عما اقترحه الرئيس المعزول في تفاعل مع الأحزاب، اعتماد ميثاق شرف للإعلام الحرّ، لكن المفارقة الثانية كانت في تدشين الانقلابيين حكمهم بمداهمة مؤسسات إعلامية لا يرونها مساندة لهم وقطع تصوير قناة الجزيرة وتعطيل عديد القنوات التلفزية المحسوبة على مخالفيهم واحتجاز إعلاميين وترويعهم واعتقال قيادات سياسية أولى من الحزب الذي ينتمي إليه الرئيس المنتخب الذي انقلبوا عليه، والحال أن محمد مُرسي خلال سنة من حكمه، على كثرة أخطائه، لم يعتقل أحدا من معارضيه ولم يضيّق على المحتجين ولم يوقف أية مؤسسة إعلامية وتلك مفارقة أخرى.

رأينا بعد الانقلاب أن الفريق عبد الفتاح السيسي الذي قال أنه يعرّض نفسه للموت ولا يقبل بقتل المصريين، وزعم أنه ينحاز لإرادة المصريين في الميادين، يعطي الأوامر بإطلاق الرصاص وقتل المصريين المتظاهرين في الميادين المؤيّدين للرئيس محمد مرسي. كما رأينا أعوان الأمن الذين كانوا يحمون المعارضين بميدان التحرير و يقدمون لهم الماء، يحاصرون المؤيدين لمرسي ويطلقون عليهم النار. فبدا بسرعة حياد القوات المسلّحة من جيش و شرطة، عار من أيّة مصداقية.
جاءت مجزرة محيط الحرس الجمهوري فجر يوم الإثنين 8 جويلية 2013 التي استهدفت مؤيدي مرسي أثناء الصلاة بموقع اعتصامهم السلمي، والتي راح ضحيتها عشرات الشهداء ومئات الجرحى لتكشف الوجه الدموي للانقلاب العسكري الفج على الرئيس المنتخب محمد مرسي. ودلّ وابل الرصاص الذي أطلق من رشاش كل من شارك في المجزرة والذي التقط المتظاهرون أعدادا كبيرة منه كما تؤكد التقارير المصوّرة، دلّ على درجة عالية في العنف الأعمى والاستخفاف بأرواح المصريين الذين زعم الانقلابيون حمايتهم. وجاء بيان القوات المسلحة في تبرير المجزرة وإدّعاء الجريمة على جماعة الإخوان المسلمين ليكشف إصرار البغاة على جريمتهم وتكرارهم لسيناريوهات سيئة الذكر في دفع المشهد المصري نحو الاقتتال الداخلي والتماس الأساليب القذرة في إسكات الخصوم ودوام حكم العسكر وحماية مصالح قياداته وحلفائهم.

ومع ذلك استمر الملايين من المصريين في مختلف الميادين يهتفون سلميّة .. سلميّة. ويعلنون الاعتصام حتى يسقط حكم العسكر. وربما سيندم كل المخلصين ممن تسرعوا في تأييد الانقلابيين وسيكون الخزي والعار على من أصرّ منهم في إلباس الحق بالباطل وسيرتد على البغاة بغيُهم مهما كانت التضحيات.
لقد حكم العسكر مصر ستّة عقود وكان الاستبداد والفساد. فلما قامت الثورة عليه، ظل قادته يحمون ابن المؤسسة العسكرية حسني مبارك إلى الساعات الأخيرة قبل أن يضحّوا به. ولما انتصرت الثورة حاول العسكر الالتفاف عليها من خلال حكم المجلس العسكري الذي خرج الشباب ومختلف القوى السياسية لإسقاطه. وكان انتخاب الرئيس محمد مرسي لأول مرة في تاريخ العرب الحديث آذانا بنهاية حكم العسكر. لذلك لا نهوّن من المصاب الجلل في انقلاب العسكر مرّة أخرى على الحكم المدني وإلغائه لنتائج الانتخابات، على غرار ما حصل في أكثر من تجربة عربية معاصرة، ولا نبالغ حين نصفه بالزلزال السياسي. فالانقلابات تظل مخيفة ومرفوضة وغير مأمونة العواقب، لاسيما أن تكون بعد ثورة شعبية وانتخابات ديمقراطية وفي بلد مؤثر في محيطه مثل مصر.  وقد كشفت الأحداث والتقارير أنّ قرار الانقلاب على مرسي كان سابقا لاعتصام يوم 30 جوان، بل كان الاعتصام والتغطية الإعلامية له جزءا من عناصر الخطة.

والخشية أيضا أن يكون فشل نهج المشاركة السياسية للإسلاميين، بعد أكثر من تجربة، واستمرار إقصائهم تشجيع على خيارات أخرى في صفوفهم. لذلك ننبه إلى خطورة أن يكون استهداف حكم الإخوان المسلمين في مصر والإسلاميين عموما غاية في حدّ ذاته، أي أن يتم رفض وجودهم في أعلى مؤسسات الدولة لأنهم إسلاميون، بدعوى عدم قبول المزاج العام لهم أو لخطورة مشروعهم أو لأي سبب آخر. فذلك مناقض لمقتضيات الديمقراطية التي تكون فيها الانتخابات الحرة أساسا وحيدا لشرعية الحكم، ولأن ذلك استمرار في سياسة إقصاء الإسلاميين منذ عقود التي لم تجد نفعا ولم تجلب سوى المآسي، ولأن ذلك وهو الأهم سيشجع نزعات العنف في صفوف الحركات الإسلامية التي بُذلت جهود ضخمة ومضنية من داخلهم ومن خارجهم من أجل إقناع بعضهم بنهج المشاركة السياسية القانونية.

وتستمرّ معركة الديمقراطية

لقد نجح هذا الجيل في الثورة على رموز الاستبداد وأبعدهم من رأس الدولة، وحقق ما عجزت عنه أجيال سابقة، وكسّر قاعدة الاستثناء العربي، لكنه فشل على ما يبدو إلى حدّ الآن في إسقاط النظام القديم وبناء ديمقراطية فعلية. وربّما تكشف التجربة المصرية أنّ عوامل خارجية، إضافة إلى الأسباب الداخلية سالفة الذكر، ساهمت في إجهاض الحلم العربي في الديمقراطية، باعتباره شرط التنمية الشاملة والنهضة الحضارية، وأن عناصر قديمة مؤثرة في الوضع العربي، ما زالت تفعل فعلها بقوة. وليس الدور  الخليجي المؤامراتي الذي تأكد في ما حصل من انتكاسة بمصر، والتواطؤ الدولي المريب، الذي تلكأ في إدانة الانقلاب وربما يُسوّق له لاحقا، سوى برهانا على ذلك. لذلك يتعيّن على الثوريين المخلصين أن ينجحوا في كشف المخاطر والمؤامرات الداخلية والخارجية، وأن يعملوا بواقعية على تفكيك منظومة الفساد والاستبداد وحماية القرار الوطني المستقل والالتحام بالجماهير التي تظل يقظتها ومشاركتها في رفع التحديات أكبر تحصين للثورة ضدّ أعدائها. وإن في صمود ملايين المصريين بالميادين والتزامهم النضال السلمي ضدّ الانقلابيين، أكبر حافز لغيرهم من المنتصرين للثورات العربية. ومهما تأزمت الأوضاع فإنه لا بديل في التنافس السياسي الديمقراطي عن العودة إلى الحوار باستمرار والبحث عن التوافقات الممكنة والتسويات المرضية، دون المسّ من أركان الشرعية وقواعد التنافس المتفق عليها.  وحتما سينتصر الدم على السيف مرّة أخرى ولابدّ للثورة أن تنتصر.

وإذا بدا تصحيح المسار متعذّر التحقيق، وظلت العوائق كبيرة أمام استكمال مهام الثورة وتحقيق أهدافها، فإنه في كل الأحوال لا يجب الاستسلام للواقع والرضا بالموجود خوفا من الفراغ والفتنة، حتى لا يقتلنا اليأس. كما لا يجب أن نقنع بالتغيير الشكلي، فنسلّم مصيرنا لزعماء معارضين، يركبون تذمّر الناس ويؤججون عدم رضاهم، فإذا دقّقت في خطاباتهم وآليات تفكيرهم وتتبعت مساراتهم وممارساتهم، قد لا تقف على فوارق بينهم وبين من ينقدونهم في الحكم سوى اختلاف المواقع.  باختصار العبارة، يبدو أن  ثقافة الاستبداد ليست من صناعة حكام مستبدين ولّوا، بل هي التي تظل ما بقيت تصنع مستبدّين على الدوام. وأن جوهر درس الزلزال المصري هو أنه لا ديمقراطية دون ديمقراطيين. ولا دولة مدنية حديثة دون ثقافة مواطنة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*1 ـ راجع مقالنا بعنوان  “بين حكم خائف ومعارضة يائسة: متى يأذن صبح العرب بالبلج؟” منشور بالعدد 29 من مجلة “الإصلاح” الالكترونية  بتاريخ 03 ماي 2013. (www.alislahmag.com).

2 ـ  راجع مقالنا بعنوان “هل تؤسس الثورات العربية ديمقراطية ما بعد العَلمنة والأَسلمة؟” منشور بالعدد 11 من مجلة “الإصلاح” الالكترونية بتاريخ  24 أوت 2012. ( www.alislahmag.com).

 

                                                                                      محمد القوماني

الأمين العام لحزب الإصلاح والتنمية

goumani.med@gmail.co

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*”يوميات الزلزال السياسي بمصر: ولا بدّ للثورة أن تنتصر” منشور بالعدد 34 من مجلة “الإصلاح” الالكترونية  بتاريخ 12 جويلية 2013. ومنشور بالتوازي بجريدة الضمير. (يومية تونسية)

 

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: