يولد حزب الحكومة كبيرا..لكن..

نجح حزب حركة تحيا تونس يوم الأربعاء 01 ماي 2019 في تدارك تعثّر انطلاقته في مؤتمره التأسيسي يومي السبت والأحد 27 و28 أفريل، فحشد نحو 15000 من الأنصار حسب التصريحات، للمشاركة في الحفل الاختتامي المؤجل بيومين، ليخطب القادة وليعلنوا ملامح الحزب الجديد ونتائج المسار التأسيسي. حضر رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وبعض السفراء وعدد من الوزراء الحاليين أو السابقين وممثّلي بعض المنظمات أو المؤسسات. وذكر الأمين العام للحركة سليم العزابي في كلمته بالحفل أن حزبهم “وُلد كبيرا”. وردّد قياديون بالحزب نفس الوصف لاحقا. فحسب العزابي تمّ توزيع 20000 انخراط في يومين و50000 انخراط في أسبوع ليبلغ عدد الانخراطات 80000 خلال أسبوعين. وبذلك حقّ لقادة حزب الثلاثة أشهر، الذي تمّ إعلان تأسيسه في 27 جانفي بالمنستير، وتُظهره بعض استطلاعات الرأي في المرتبة الثالثة أو الثانية في نوايا التصويت، أن يصفوه بالحزب الكبير. فما هي ملامح هذا الحزب الكبير كما تتجلّى من خطابي الشاهد والعزابي؟ وهل يكون الحزب طبيعيا حين يولد كبيرا؟ وهل حسم حزب الحكومة نتائج الانتخابات قبل خوضها في الصناديق يوم 06 أكتوبر القادم؟

كان حضور يوسف الشاهد، “دون رابطة عنق”، والذي احتفى به الحاضرون في صورة “زعيم للحزب”، الحدث الأبرز في الاختتام. وفي خطابه الذي ناهز الساعة كان الخبط عشوائيا كما لم يحصل من قبل. فالشاهد الذي يحضر أوّل اجتماع علني لتحيا تونس، ذكر أنّه كان يتابع مختلف مراحل التأسيس، بل توسّع قي شرح مرجعية الحزب البورقيبية، وأصوله الضاربة في تاريخ تونس، وعقيدته “الوطنية”، وانتهى إلى أنه بتأسيس تحيا تونس لم يعد يشعر أنه وحيدا في مواجهة التحديات الوطنية وأعباء الحكم، بل إنّ تسمية الحزب التي ثمّنها كانت من إيحائه بترديده المستمر لتلك العبارة في خطاباته. وبعد أن أطنب وأطال في الأمور الحزبية، وهاجم شركاءه في الحكومة وخاصة حركة النهضة، ووصف معارضيه بالشعبويين والفوضويين، ونسب كل إنجاز حكومي لشخصه، وأرجع كل فشل أو مصاعب لخذلان شركائه ولأسباب خارجة عن نطاقه، وأظهر قوّة شخصيته وصلابته في التمرّد على من جاءوا به أو ساندوه، عاد الشاهد بعد كل ذلك ليذكّرنا في آخر الخطاب أنه يحضر بصفته رئيسا للحكومة مدعوّا من حزب تحيا تونس. والحال أنّ طبيعة خطابه تكشف لوحدها طبيعة حضوره.

كان الشاهد ممزّقا طيلة خطابه، بل مضطربا، بين صفته الرسمية كرئيس للحكومة، وموقعه كزعيم للحزب، وهو ما لم يخف على أيّ متابع. وهذا في الحقيقة ما صبغ سلوكه وتصريحاته منذ نحو سنتين من تسريب خبر اعتزامه تشكيل حزب خاص به، لا سيما بعد استقالة بن غربية والعزابي من منصبيهما، وبعد إثارة شبهة توظيف الدولة لخدمة الحزب. ولا تبدو المشكلة في حقّ الشاهد ومن وافقه في تكوين حزب سياسي، فهذا أمر طبيعي وحق دستوري، ولكن المشكلة في المراوغة وفي إخفاء الحقيقة وفي الخلط بين الحزب والدولة مرّة أخرى.
ففي الوقت الذي كان فيه أطراف من الائتلاف الحاكم يطالبون بتفرّغ الحكومة لمواجهة الاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية الآخذة في التعقيد والمخاطر، كان الشاهد وأنصاره ينفون أية نيّة لهم في تكوين حزب. وحين تمّ الإعلان عن الحزب ظلّ الحرص على غموض موقع الشاهد فيه. وبعد المؤتمر التأسيسي يتأجّل الأمر إلى حين استكمال خطوات مساعي التوحيد مع أحزاب أخرى من نفس العائلة، على غرار أحزاب المشروع والمبادرة وشقّ النداء بقيادة طوبال، ليتمّ لاحقا الإفصاح عن أجندة الشاهد لحكم تونس، من خلال ترشيحه لرئاسة الجمهورية وضمان حزبه لكتلة برلمانية أغلبية. فحزب تحيا تونس الذي “ولد كبيرا” لا يطمئن في وضعه الحالي، ولا بدّ من شركاء يعزّزونه.

جاءت استطلاعات الرأي الأخيرة حول نوايا التصويت لتقفز بحزب تحيا تونس إلى الأمام في التشريعية، وليتدحرج اسم الشاهد كثيرا في الرئاسية. وهذه وضعية ستكون لها تداعياتها على مستقبل قيادة الحزب وعل خطابه الانتخابي ونتائجه. وقد استبق الشاهد الأمر بإرجاع فشله الحكومي الذي يفسر تراجع شعبيته، إلى غياب السند السياسي الذي سيجده مستقبلا في حزبه. فقد كان في خطابه فرديّا وجحودا، حين اختزل الحكومة في شخصه ونفى أيّة مساندة له من فريقه الحكومي أو من أحزاب الائتلاف. وبدا موقفه لافتا من حركة النهضة خاصة، التي كانت أكبر مدافع عن الاستقرار الحكومي الذي كان الشاهد المستفيد الأول منه، بل كان دعم النهضة له سببا في إرباك توافقها مع رئيس الجمهورية.

ومن جهة أخرى حرص الشاهد في خطابه، وكذا العزابي، على إظهار حزب تحيا تونس على أنه “قطيعة مع القواعد الساسية القذرة” وأنه مشروع جديد بجيل جديد. وبصرف النظر عن مفارقة مزاعم اعتماد الانتخابات من القاعدة إلى القمة، والتي تم استبدالها في الطريق بالتوافقات التي تعني عمليا التعيينات، وسرعة تكوين الحزب الذي بدا أقرب إلى “الشركة”، فإنّ المرجعية البورقيبية المزعومة أيضا، تخلق مفارقة أخرى. فالإحالة على مكاسب الدولة الوطنية في التعليم وتحرير المرأة خاصة، بنبرة احتكارية، وتعمّد ذكر اسم الزعيم بورقيبة مرات، والاستشهاد ببعض أقواله، كلّ ذلك يجعل الحزب الجديد جزءا من المنظومة القديمة بمحاولته استنساخ حزب التجمع المنحلّ بعد الثورة. إضافة إلى ما في ذلك من تنازع مع أطراف أخرى على موروث “الحزب الدستوري” الذي لم يتم تقييمه ونقده بما يكفي. وما أبعد مثل هذا التمشّي في الارتباط بالقديم، عن مزاعم الجدّة والاستجابة لتطلعات الشباب والأجيال الجديدة.

إذا كانت معطيات الطبيعة تفيد بأنّ أيّ مولود أكبر من الأصل أو أصغر، يعود إلى خلل ما، وتكون له تداعيات سلبية على المولود غير الطبيعي، فإنّ معطيات السياسة والتاريخ تبدو مؤيّدة لذلك. ففي تجارب أخرى ليست ببعيدة في المغرب وفي الجزائر على سبيل الذكر لا الحصر، نشأت أحزاب للدولة كبيرة وفازت بالانتخابات، لكنها لم تصمد طويلا، والأهم من ذلك لم تساعد على معالجة المشاكل الحقيقية. إذ ما كان فوزها ليحصل لولا انحياز الدولة، وما كان لكيان اصطناعي أن يلبي حاجة طبيعية. وفي مثال آخر صارخ مع اختلاف السياق والطبيعة، كان الصعود السريع لتنظيم داعش الإرهابي، المسنود دوليا، متبوعا بسقوط سريع ومدوّ، وبإرادة دولية أيضا. فليس ما يولد كبيرا ومصطنعا يثبت جدارته في واقعه، و يترك بصمة في التاريخ. ناهيك أنّ تجربة حزب “الروافد المختلفة” والمستعجلة لصهرها، تبدو غير مطمئنة في السياق التونسي.

اتُّهم حزب تحيا تونس بالسطو على مشترك وطني في تسميته، وباحتكار رمز النصر في شعاره، وباستغلال صفة المسؤولية في الدولة في تكوينه، وتُثار شبهات حول مصادر تمويله وعلاقته بأجندات محلية واقليمية، ويبقى الأخطر التخوّفات التي عبّرت عنها أطراف عديدة، من تزييف الانتخابات، أو التأثير غير المشروع في نتائجها. فاستعجال حسم النتائج قبل خوض امتحان الاقتراع، والتطلّع إلى إحكام القبضة على الحكم، والتلويح بالقوّة في غير سياقها، رسائل سلبية يتلقّاها منافسو حزب الشاهد، الذين قد يخطئ التحياويون في تقدير تأثيرهم. وفي المثل الشعبي التونسي يقال “اللّي يحسب وحدو يفضلّو”.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 107، تونس في09 ماي 2019
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/59768465_525474567983692_1422717060785373184_n.jpg?_nc_cat=109&_nc_ht=scontent.ftun3-1.fna&oh=4cda11d6776cc45918bff24221eafa9a&oe=5D56C527

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: