ولذلك لا ينجحون..

انتهت مساء أمس المدّة التي أعلنها حزب حركة النهضة للمعنيّين بالترشّح على قائماته للانتخابات التشريعية لسنة 2019، لتقديم مطالبهم في الغرض، حسب بلاغ المكتب التنفيذي المنشور يوم 15 أفريل الجاري. وقد وضعت مؤسسات الحزب لائحة تضبط الشروط ودليل إجراءات لتنظيم تقديم الترشحات وإقرارها عبر مراحل، ليكون إعلان المترشحين نهائبا في موفّى شهر جوان القادم. وبهذا التمشّي يتقدّم حزب النهضة، بعد تجربة البلديات، خطوة هامة على طريق تعزيز ديمقراطيتة، بتنظيم انتخابات داخلية أوّلية لاختيار مرشحيه للمناصب العامة في الدولة. وذلك إنجاز سياسي لا يُستهان به، مهما بدت نواقصه. وتنكبّ مؤسسات الحزب المختلفة على إعداد البرنامج الانتخابي ومستلزمات المشاركة الفعّالة في الاستحقاق التشريعي والرئاسي نهاية العام.
وبالتوازي مع هذه الاستعدادات النهضوية، تعقد بعض الأحزاب الأخرى مؤتمراتها الوطنية، وتنشط جمعيات وشخصيات، وتتصاعد خطابات عديدة لتهاجم النهضة وتجعل منها محور استقطاب أيديولوجي أو سياسي في أفق انتخابات 2019. فما هي أهمّ دوافع تلك الخطابات؟ وكيف تبدو حظوظ من يبنون نجاحهم في الانتخابات القادمة بمضادّة النهضة أو التوعّد باستبعادها من الحكم أو استئصالها؟
لم يعد خافيا على المتابعين أنّ الأحزاب التي تنافس النهضة، أو يُفترض فيها ذلك، صارت تبني خطابها السياسي على أنها “ضدّ النهضة”، أو تبحث عن خلق التوازن معها. فها أنّ أحزابا تأسّست وتعلن أنها وزعت آلاف الانخراطات، دون أن تفصح عن مضامين توجهاتها أو برامجها، أو تعقد مؤتمراتها، فيكفيها اختلافها مع النهضة. و ها أنّ أحزابا أخرى “عريقة” لا نسمع من تصريحات قياداتها إلاّ التخويف من النهضة. ويحلو للمستثمرين في “مضادّة النهضة”، النفخ في نار الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي كلّما خبت، مع أنهم يقرّون بأنّ التحديات اقتصادية واجتماعية بالدرجة الأولى. يدّعون الوسطية ويحتكرونها، مع أنّ النهضة أكثر تموقعا في الوسط الاجتماعي العريض منهم. وقد بات واضحا خلال الفترة الأخيرة، ومع اقتراب الموعد الانتخابي، أنّ المزايدة داخل الحزب الواحد، أو بين الأحزاب، تعتمد مخاصمة النهضة وادّعاء عدم التحالف معها، مادّة أساسية في صراعها السياسي ودعايتها. مع أنّ الجميع يطلبون ودّ النهضة سرّا ويدركون أنّها رقم أساسي في معادلة الحكم. وتكفي التفاتة قصيرة للماضي القريب، لنعلم عدد الأحزاب والشخصيات الذين أصمّوا الآذان بشتم النهضة ومخاصمتها، ثم قبلوا العمل معها. ولذلك يبدو العيب الأكبر في خطاب الضديّة، هو ما يسبّبه من تغييب لوضوح الخيارات واختلاف البرامج، والتشويش على الناخبين ومغالطتهم.
وحين تبيّن فشل خطاب “الضدّية” في خلق كيانات حزبية وازنة في منافسة النهضة، صار الاشتغال على “التحيّل” على الناخبين، بترذيل السياسة وتبخيس الأحزاب، وادّعاء الحلّ البديل في “المستقلين”. والعجب أن من يختفون وراء هذه اللافتة، يلعنون السياسة والسياسيين، ويقدّمون أنفسهم لمناصب سياسية بامتياز، وأوّلها البرلمان والحكومة. وكم من “مستقل” غادر منصبه الحكومي فسارع لتأسيس حزب أو الانخراط في آخر، للعودة إلى الحكومة. وقد فضح المستثمرون في “الاستقلالية” أنفسهم مؤخرا حين أعلنوا تكوين إطار سياسي جامع لهم سمّوه “اتحاد المستقلين”. وهو انتظام حزبي أو جبهوي غير خاف، يغالط الناخبين باسم الاستقلالية. والخشية أن يكون “إطار المستقلين” تحيّلا جديدا على التونسيين، واستعجالا للفوز، يذكّرنا مع فارق المجال، بشركة “يسر للتنمية” الوهمية، التي استثمرت في المستعجلين للربح السهل وتنمية أموالهم.
وبالتوازي مع خطابي “الضدّية” و”التحيّل” يعلو مع الوقت، في منابر إعلامية باسم الاستقلالية والتحليل السياسي، أو تحت لافتات حزبية، خطاب “استئصاليّ”، يستثمر في اليأس ومصاعب الانتقال الديمقراطي، ليشكّك في الثورة ويروّج لتبييض الفساد والاستبداد، ويستعيد خطاب الحكم البائد في ادّعاء “الوطنية” والتخويف من خطر “الخوانجية”. وهذا الخطاب الذي يستمدّ جاذبيته من نشازه، ويستقوي بالمتربصين بالمسار الديمقراطي من أنصار الثورة المضادّة في الداخل والخارج، يبدو محدود الأثر رغم ما يحدثة من جعجعة. ومع أنّ منسوب الوعي الشعبي والحصيلة السوداء للحكم المنهار وتمسّك الأغلبية بمكسب الحريات الديمقراطية، عناصر حاسمة في حماية الثورة ومنع أيّة ردّة، فإنّ خطر هذا الخطاب القصووي يظلّ في تصعيد خطاب قصوويّ مضادّ له، بما يغذّي التطرّف ويشوّش على المصالحة الوطنية التي تحتاجها البلاد لتأمين انتقال هادئ بأقلّ التكاليف.
يحضرني في سياق ما نحن بصدده، تصريح لحافظ قائد السبسي في حواره مع جريدة القدس العربي قبيل مؤتمر حزب نداء تونس، أشار فيه إلى أنّ من يُرجعون أسباب الخلاف في الحزب إلى وجوده به أو على رأسه، حجتهم ضعيفة، لأنّهم لم يتوحّدوا حين غادروا النداء بل كوّنوا أحزابا عديدة، بما يؤكد وجود أسباب أخرى للانشقاق. وقياسا عليه يبدو المخاصمون لحركة النهضة أيضا، مهما كانت مواقعهم وخطاباتهم، مجتمعين على رفض النهضة، مختلفين ومتناحرين بينهم. وهذا أحد أسباب فشلهم في بناء كيان حزبي جامع وفاعل. فهم لا يكادون يجتمعون حتّى يتفرّقوا من جديد. ومن الإجحاف إرجاع تشتّت المشهد الحزبي وضعفه وعجزه، إلى سياسة النهضة أو غيرها من الأسباب خارج تلك الأحزاب نفسها.
وفي حين تعمل النهضة على تطوير نفسها وتجديد خطابها وهيكلتها، ودعم منسوب الديمقراطية داخلها، لتحافظ على وحدتها وترتقي إلى مجابهة التحديات الوطنية التي ترشّح نفسها لمواجهتها، ينشغل الآخرون بسبّها وملاحقتها فكريا وسياسيا، ويعملون على إضعافها، بدل الاستفادة منها في تقوية أنفسهم ومنافسنتها. وذلك لعمرى أحد الأسباب الرئيسية لعدم نجاح خصوم النهضة، في خلق توازن حزبي ضروري لتأمين الديمقراطية وخلق فرص للتداول والتنافس على ما فيه خير البلاد والعباد.
كانت النهضة ولا تزال منذ 2011 صمّام أمان لاستمرار مسار الانتقال الديمقراطي، ولولا جاهزيتها وموقعها في البرلمان، لعاد الحكم الذي قامت عليه الثورة من خلال صناديق الاقتراع. وكلما حافظت النهضة على وحدتها كانت إحدى ركائز الاستقرار السياسي الضروري لحماية الدولة والمكتسبات والتهيئ لمواجة التحديات.
ويظلّ الأمل قائما في أن يستخلص الفاعلون السياسيون المخالفون للنهضة، الدرس من تجارب الفشل، وأن يمارسوا النقد الذاتي والتصحيح وتعديل الخطاب لتجاوز حالة الانقسام والتشتّت، والاجتماع على كلمة سواء مع النهضة وغيرها من القوى الوطنية، تحت سقف الدستور والقانون، وفي إطار التنافس الديمقراطي على أصوات الناخبين، طبقا لبرامج وحلول لمشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والصحية والتربوية وغيرها. فالضدّية والتحيّل والاستئصال ليست طرقا للنجاح الانتخابي والسياسي.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 105، تونس في25 أفريل 2019
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/57775036_518037232060759_9151317569553039360_n.jpg?_nc_cat=101&_nc_ht=scontent.ftun3-1.fna&oh=9e5fd1d0a301ed17bfef6a09f4c030fa&oe=5D34E3DA

مشاركة
    Avatar for محمد قوماني
    1 Comments
    Avatar for محمد قوماني
    محرز 2019-04-26
    | |
    خطاب رصين و مهدئ تحتاجه سماعه بعض الرؤوس الحامية
    %d مدونون معجبون بهذه: