هنيئا لك أيها الشهيد الجامع هنية.. ولتهنأ على القضية.
.
كثيرا ما تكون الأحداث العظام، أفراحا أو أتراحا، مناسبات للبوح بما يختلج بالنفس قبلها. وها أنّ ارتقاء اسماعيل هنية إحداها.
1 ـ توحيد الأمة لايزال ممكنا..
ارتقى الشهيد هنية رحمه الله تعالى يوم الاحتفاء الكبير به في طهران بمناسبة تنصيب رئيسها الجديد مسعود بزشكيان، وهو يرأس حركة حماس ويقود مفاوضات المقاومة بعد عمل بطولي يوم السابع من أكتوبر 2023 وفي ظل صمود خرافي ومواجهة لأكثر من عشرة أشهر لٱلة الحرب الصهو-أمريكية. وكان من الأهداف الضمنية غير الخافية من استهدافه في طهران بالذات، تغذية الشكوك والفتنة بين الشيعة والسنة. وجاءت النتيجة عكسية.
زاد المكان من أهمية الحدث. صلّى المرشد الأعلى الخامنائي على الشهيد صلاة الجنازة بجامعة طهران وسط حضور رسمي وشعبي لافت، وسالت دموع المرشد حزنا على الفقيد. وكانت الجنازة الحاشدة الرسمية بالدوحة إثر صلاة الجمعة وتلقى أمير قطر تميم بن حمد العزاء في الشهيد الذي احتضنت بلاده جثمانه. وأُقيمت صلاة الغائب على الشهيد في كبرى عواصم ومدن العالم الإسلامي على غرار أندونيسيا وماليزيا وتركيا وباكستان. وأعلنت تركيا الحداد الوطني.
هزّ خبر اغتيال إسماعيل هنية عواصم العالم وتداولته وسائل الإعلام المختلفة وتأثر لاستشهاده جمهور واسع في العالم الإسلامي من العرب والعجم ومن السنة والشيعة ومن اليمين واليسار ومن الحكام والمحكومين ومن مختلف الأجيال. وندّد باغتياله أحرار كثر في العالم. هذا علاوة على اجتماع الفلسطينيين فيه وعزم جبهات المقاومة المتعدّدة على الثأر المشترك له.
استحق الشهيد هنية أفضل ارتقاء بعد مسيرة حافلة وأداء مميّز من مواقع مختلفة، وكان له تشييع غير مسبوق وصحّ فيه لقب الشهيد الجامع. وأثبت إسماعيل هنية بالملموس، أنّ توحيد الأمة الإسلامية على الحدّ الأدنى المشترك لايزال ممكنا، متى اجتمعت المبدئية مع الصدق والوضوح والمرونة وحسن ترتيب الأولويات، ووافقت الأعمال الأقوال. فالتنافر المذهبي والتعصب والانغلاق عناصر لا تخدم إلاّ أهداف العدوّ. “ومن يكرم الشهيد يتبع خطاه”.
لا عدل إلا إذا تعادلت القوى..
يظلّ قول شاعر تونس الخالد أبو القاسم الشابي: “لا عدل إلا إذا تعادلت القوى * وتصادم الإرهاب بالإرهاب” راهنيا.
فقد أثبتت عقود الصراع ضد الاحتلال الاستيطاني الصهيوني نجاعة خيار المقاومة المسلحة في فرض الحقوق الفلسطينية المشروعة. وأثبتت إنجازات المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، وإنجازات المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس، خلال العقود الأخيرة، أنّ تطوير القدرات العسكرية وغيرها وخوض المواجهات، سبيل تغيير المعادلات الميدانية والسياسية على طريق التحرير الشامل.
وقد عزّزت جبهات الإسناد في لبنان واليمن والعراق محور المقاومة وجعلته حقيقة ميدانية. وها أنّ إيران بعد ضربتها “العقابية لإسرائيل” غير المسبوقة في أفريل المنقضي، ردّا على استهداف قنصليتها بدمشق، ستكون في قيادة جبهة المقاومة في ردّ “حتمي منتظر” على اغتيال هنية على أرضها وفي ضيافتنا وبالتزامن مع استهداف جبهات المقاومة الأخرى وخاصة اغتيال القيادي العسكري بحزب الله الشهيد فؤاد شكر بضاحية بيروت الجنوبية.
وفي خطاب لافت للرئيس أردوغان مؤخرا، أثار انزعاج الكيان الصهيوني، أشار إلى أنّ لا شيء يمنع تركيا من التدخل العسكري في فلسطين، على غرار تدخلها في أماكن أخرى، إلاّ امتلاك القوة الكافية لذلك. وهو يهمس ضمنيا بأنّ “إسرائيل” محمية من قوى دولية لا بد من امتلاك القوة لمواجهتها حماية للفلسطينيين. فالقوة إذن مربط الفرس. والقوة العسكرية ومستلزماتها في مقدمة ذلك. وتلك مؤشرات على مستقبل المنطقة والعالم، التي تؤكدها الحرب الروسية الأوكرانية وعملية طوفان الأقصى.
3 ـ ما بعد طوفان الأقصى مختلف عمّا قبله..
تفيد تحاليل عديدة متطابقة أنّ طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر كان أول هزيمة ملموسة مرّغت أنف الكيان المحتل وأسقطت أسطورة “الجيش الإسرائيلي الذي لا يُهزم”. وزادت المقاومة الباسلة لأكثر من عشرة أشهر في ظل الاختلال الرهيب في القوة، في تكريس هذه النتيجة. وها أنّ الشهيد هنية القائد المؤسس في حماس الذي ساهم في بنائها وعرفت في عهده تحوّلا ملحوظا وخاضت مواجهات مشهودة مع العدو، يشهد عملية طوفان الأقصى ويعلن عنها رسميا ويقود المفاوضات في ظلها، ويكون استشهاده نقطة تحول استراتيجية في المعركة. فبالعمليات الإسرائيلية الأخيرة المتزامنة على جبهات المقاومة المتعددة، وٱخرها اغتيال القائد الكبير إسماعيل هنية في نفس يوم اغتيال القائد العسكري الكبير أيضا فؤاد شكر، ننتقل كما جاء في خطاب نصر الله الأخير من “الإسناد لغزة”، إلى “معركة كبرى ضد إسرائيل”. وستكون الضربة المشتركة المنتظرة نقطة تحوّل فعلي في الميدان.
هكذا يكون طوفان الأقصى منعرجا استراتيجيا ويكون الشهيد هنية علامة فارقة حيّا وميّتا. وستلقي الأحداث الأخيرة، وحرب الإبادة الهمجية، بلا شك بضلالها على العالم والمنطقة لفترة طويلة. وسيكون موضوع “امتلاك القوة” و”تصادم الإرهاب بالإرهاب” على حدّ قول الشابي، بوصلة الأجيال الصاعدة.
وفي كل الأحوال لا نملك إلاّ أن نودّع شهيد الأقصى بقولها: لتهنأ يا هنية في مرقدك مع كوكبة الشهداء الأخيار ممّن سبقوك وممّن سيلحقون بكم، ولتطمئن روحك على مستقبل القضية الفلسطينية، التي لم يُعد لها طوفان الأقصى الضوء بعد أن ظنّ العدوّ قبرها، بل غيّر المعادلات الدولية الرسمية والشعبية في التعاطي معها. “وإنّه لجهاد نصر أو استشهاد”.
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25