هل فات الأوان؟

تسارعت الأحداث خلال الأيام الأخيرة لتلقي بمزيد من الظلال السلبية على الوضع العام بالبلاد وتزيد في انشغال التونسيات والتونسيين وسط استمرار الأزمة السياسية واحتدادها. فلم يغيّر اجتماع مجلس الشورى يومي السبت والأحد موقف حركة النهضة المعتمد في دعم الاستقرار الحكومي. ولم ينجح لقاء رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي  برئيس الجمهورية يوم الاثنين في تبديد الجليد بين الشيخين بعد إعلان نهاية التوافق بينهما. وسارع حزب نداء تونس في سابقة سياسية لافتة، إلى  نشر فحوى هذا اللقاء والتحدّث باسم الرئيس، في بيان  شدّد عل انتهاء التوافق واعتبار الحكومة الحالية حكومة حركة النهضة التي لا يدعمها النداء. ثم جاءت استقالة مدير الديوان الرئاسي سليم العزابي صباح الثلاثاء،  لتؤشّر بدورها على تغييرات قادمة في قرطاج.  وفي الأثناء تستمرّ منابر الإعلام المختلفة في عقد حوارات ونشر معلومات واستجواب شخصيات حول ادّعاءات لجنة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي في ندوتها الصحفية الأخيرة واتهاماتها الخطيرة لحركة النهضة ب”رعاية جهاز سري” و”الضلوع في الاغتيالات السياسية”. فهل انطلق الزمن السياسي للاستحقاق الانتخابي نهاية 2019 باستعادة أجواء الاستقطاب والتوتّر في العلاقات الحزبية؟ وهل فات الأوان عن تدارك التداعيات السلبية لإدارة الخلاف حول الأزمة السياسية؟

استحوذت النقطة السياسية في جدول أعمال مجلس شورى النهضة على كامل ردهات الدورة الثانية والعشرين نهاية الأسبوع المنقضي، فكان الحوار عميقا وحرّا على مدى يومي 6و7 أكتوبر 2018 حول أبعاد الأزمة السياسية التي صار الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية عنوانا لها، وتباينت الآراء في تقدير الموقف حول علاقة حزب النهضة ماضيا ومستقبلا بالباجي قائد السبسي وبيوسف الشاهد.

فدعت “أقليّة” إلى استمرار التوافق القائم مع الرئيس منذ أربع سنوات الذي تأكدت نتائجه الإيجابية على البلاد وعلى الحركة وكان عنوان الاستثناء التونسي. فهو توافق لم يقم على موازين قوى في البرلمان، إذ لم يكن للباجي يوم التقاه الغنوشي في 15 أوت 2013 كتلة نيابية ذات شأن ولم يتحوّل النداء بعد إلى حزب رئيسي. بل كان توافقا سياسيا يرمز إلى المصالحة بين الإسلاميين والدساترة وبين الجديد والقديم كشرط للمصالحة الوطنية الشاملة، وإلى تخلّي جميع الأطراف عن الإقصاء تحت أيّة ذريعة، وإلى الإدماج والمشاركة وتنافس الجميع في رحاب الدولة وتحت سقف الدستور والقانون خدمة لتونس. وهي المعاني التي  كرّر الرئيس الباجي قائد السبسي مرارا تلخيصها في نقطتين أساسيتين وهما “تقديم مصلحة الوطن على مصلحة الأحزاب” و”حلّ جميع مسائل الخلاف عبر الحوار”. واعتبر أصحاب هذا الموقف أنّ أداء حركة النهضة منذ اندلاع الأزمة السياسية حقّق بعض النتائج الإيجابية وعدّل قواعد التوافق القائم بما يلزم من التوازن، لكن تمّ التردّد في تعديل التمشّي في الوقت المناسب، بما يساعد على حلحلة الأزمة. ودعوا إلى أخذ المستجدات في المشهد السياسي والتوازنات في البرلمان بعين الاعتبار في أية تحالفات جديدة، والانتباه إلى هشاشة الأوضاع ومخاطر السياحة الحزبية على تزييف إرادة الناخبين وإضعاف شرعية الاطراف السياسية والتساهل مع ظواهر سلبية قد تهدّد مستقبل الديمقراطية. وشدّدوا على تأمين مستقبل العملية السياسية من أيّة مخاطر قد تربكها أو تعصف بها.

وفي المقابل دافعت “الأغلبية” عن وجاهة خيار التمسّك بالاستقرار الحكومي وعدم الاقتناع بجدوى تغيير كلّي للحكومة. ورأوا في تثبيت هذا الخيار تأمينا لمتطلبات المرحلة السابقة من استكمال الحوار مع الجهات المالية المانحة، وتثبيت المجالس البلدية المنتخبة، وحماية الموسم السياحي،  وتشجيع للمستثمرين وتفعيل للدستور في ضبط السلطات وردّ الحوار السياسي والقرار إلى مؤسسة البرلمان. وأبانوا عن التداعيات السلبية للأزمة داخل حزب النداء، التي التزمت النهضة الحياد فيها، لكنها كانت أزمة حادّة تسبّبت في إضعاف الشريك الرئيسي في الحكم وتكوين مشهد برلماني جديد لا بدّ من أخذه بعين الاعتبار لتسهيل العمل الحكومي مستقبلا وتأمين متطلبات إنجاز الانتخابات. ودعوا إلى استكمال شروط شراكة جديدة مع الشاهد على رأس حكومة  تقوم عل برنامج واضح يستفيد من وثيقة قرطاج2، ويؤكد على المضيّ في الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية، ومواصلة الحرب على الفساد دون انتقاء  وبعزيمة أكبر وفي إطار احترام القانون، وتوفير أفضل الظروف لإنجاز الانتخابات في موعدها.

وانتهى المجلس في بيانه الختامي إلى التأكيد على “تثبيت التوافق والتشارك خيارا استراتيجيا يشمل كافة القوى الوطنية”. كما دعا إلى “الحفاظ على علاقة إيجابية مع رئيس الدولة ومواصلة التفاوض مع رئيس الحكومة لاستكمال الشروط الضرورية للشراكة مع الحرص على إيجاد علاقة بنّاءة مع اتحاد الشغل”.

سارع رئيس حركة النهضة يوم الإثنين إلى طلب لقاء برئيس الجمهورية لإبلاغه قرارات مجلس الشورى ومحاولة جبر خاطره بعد إعلانه في حواره الأخير نهاية التوافق بتعابير لم يخف فيها طعم المرارة والشعور بالاستياء، فكانت الاستجابة سريعة. وكشف بيان مكتب إعلام النهضة أنّ رئيس الحركة نقل الى رئيس الجمهورية “تحيات أعضاء المجلس الوطني وتقديرهم لمؤسسة الرئاسة ولشخصه الكريم وتمسكهم بمنهج التواصل والتشاور معه لما فيه خير تونس”. كما جدّد له “التعبير عن حرص الحركة على خيار التوافق والتشاور في المشهد السياسي التونسي وخاصة بين المؤسسات التنفيذية للدولة”. ومِن جهته أكد الرئيس “حرصه على الاعلاء من شان الدولة ورعاية المصلحة العامة وإعلاء القانون واستيائه من كل انفلات او تجاوز”، كما جدّد “احترامه لكل مكونات الساحة السياسية ومنها حركة النهضة”.

لكن البيان الصادر في نفس اليوم عن حزب نداء تونس باسم الناطق الرسمي أنس الحطاب، علّق بطرقة غير مباشرة على رواية النهضة، وهوّن من أهمية اللقاء، بل ذهب إلى المضيّ في مناكفة النهضة وتصعيد الخطاب تجاهها. فشدّد البيان  على “الطابع الشخصي” للعلاقة بين الباجي والغنوشي وأن هذا الأخير طلب اللقاء، وأنّ الرئيس أكّد أنّ “قبول الزيارة يتنزل في إطار انفتاحه واستجابته لجميع أفراد الشعب التونسي دون إقصاء، وأنّ الموقف الرسمي من حركة النهضة يبقى إنهاء التوافق”.  واعتبر حزب النداء من جانبه “أنّ الحكومة الحالية هي حكومة حركة النهضة” وأنّ حزب النداء غير معني بدعمها سياسيا.

هكذا بدت مؤشرات أحداث الأسبوع سلبية في مجملها. فقد رأى بعض المراقبين أنّ بيان النداء باسم الرئاسة مؤشر على استعادة الباجي دوره السياسي المباشر في الحزب الذي أسّسه، وأنّه سيقود  “معارضة” للشاهد الذي فشل في استبعاده من رئاسة الحكومة،  ول”حكومة النهضة” ما دامت النهضة المساند الرئيسي للشاهد. وهذا المشهد السريالي يجعل الحزب الفائز في الانتخابات يتحوّل إلى المعارضة قبل نهاية الدورة الانتخابية، فلا يجد الناخبون من يحاسبون في الانتخابات الموالية. كما يخلق هذا المشهد قوة سياسية مؤثّرة في البرلمان وممسكة بالحكم دون خوض انتخابات، ونعني بها كتلة الائتلاف الوطني وحزامها السياسي المحسوبين عن الشاهد قبل التشكّل التنظيمي النهائي. كما أنّ البيان “الندائي الرئاسي” مؤشر على غضب الرئيس من زعيم حركة النهضة دون “قطع شعرة معاوية” معه، واستمرار النداء في اعتماد نهج الاستقطاب ضدّ النهضة استراتيجية لاستعادة عافيته ووحدته والاستعداد للانتخابات القادمة لنهاية سنة 2019 على أرضية انتخابات سنة 2014. ولا يستبعد أن تتقاطع أجندات من يقفون وراء الحملة المنظّمة ضدّ النهضة بالطعن في مدنيتها واتهامها بالإرهاب، مع أجندة الرئيس والنداء، لنجد أنفسنا أمام مشهد استقطابي جديد محفوف بالمخاطر.

لقد كرّرنا خلال هذه الأزمة ونجدّد  القول بأنّ اللاّتوافق ممكن نظريا، لكنّه مكلف  جدّا عمليا. ونؤكد اليوم أنّ التوافق مفهوم  يختلف عن التحالف والشراكة، وأنّ الجمع بينهما ممكن أيضا وهو أقرب للنفع وتجاوز الأزمة. وقد ألمح إلى ذلك بيان الشورى الأخير وترك الرئيس الباب مفتوحا حين قبل لقاء الغنوشي وأشار إلى نبذ الإقصاء. فهل يسارع المعنيون بالتدارك عبر مبادرة سياسية واضحة وناجعة، أم يبدو الوقت قد فات وأنّنا بدأنا إدارة أزمة مفتوحة خانقة بدل إدارة توافق قائم كان يعاني من اختلال؟

 

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 77، تونس في 12 اكتوبر 2018.

 

https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/43727000_2140930872597352_406601925392334848_n.jpg?_nc_cat=110&_nc_ht=scontent.ftun3-1.fna&oh=6ff49b34e7228c5487a0ad19e969525d&oe=5C559403

 

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: