هل صار حجم النهضة عِبْءًا عليها؟
أثارت عريضة المائة قيادي من حركة النهضة التي تطالب الغنوشي بإعلان التزامه بعدم الترشح لرئاسة الحركة في المؤتمر القادم، جدالا داخل الحزب وخارجه، واهتماما محليا وخارجيا. وبصرف النظر عن المناكفات التنظيمية في أفق المؤتمر 11 لحزب النهضة المزمع عقده نهاية العام الحالي، وعن أجندة استهداف الغنوشي تونسيا وعربيا ودوليا، نقدّر أنّ حجم النهضة السياسي وأدوارها في المعادلة الوطنية والإقليمية يمثّلان السبب الرئيسي لهذا الاهتمام. ونروم في هذا السياق إبداء ملاحظات وطرح أسئلة حول واقع النهضة وماضيها ومستقبلها، نتطلّع من خلالها إلى نقل الاهتمام والحوار إلى مربّعات فكرية وسياسية نراها أهمّ وأعظم أثرا من مربع الصراع التنظيمي والشخصنة والتموقع. فمن المهم للنهضويين والتونسيين عموما أن لا يكون الخلاف حول رئاسة الحزب مستقبلا محور رهانات المؤتمر 11 للنهضة وأهم مخرجاته.
رغم تأكيد حركة النهضة في مناسبات عديدة وفي أدبيات مختلفة على أهمية التقييم والمراجة في تطوير العمل وتحسينه، فإنّه لم تتح فرصة نقد ذاتي بحجم تاريخ النهضة وأخطائها في المعارضة أو في الحكم، قبل الثورة وبعدها. فكثيرا ما كانت السياقات السياسية والرهانات الظرفية والخوف من سوء توظيف الخصوم للاعترافات، سببا في ذلك التمنّع عن طرح الأسئلة العميقة. ويُخشى تكرار الأمر في المؤتمر 11. وقد رأى البعض، كما أشار بيان المكتب التنفيذي مؤخرا، أنّ عريضة 100 أفرغت لجنة الإعداد المضموني من محتواها وتحاول مصادرة المطلوب حسمه من المؤتمرين. وفي هذه الإشارات وغيرها تأكيد على أنّ المسألة التنظيمية، وخاصة الفصل 31 من القانون الأساسي الذي يمنع الترشّح لرئاسة الحزب لأكثر من دورتين متتاليتين، سيكون محور الاهتمام والصراع، والحال أنّ مسائل حيوية كثيرة تحتاج إلى الاهتمام والحسم.
فمخرجات المؤتمر العاشر، وفي مقدمتها تأكيد هوية الحركة باعتبارها حزبا ديمقراطيا ذا مرجعية إسلامية و إنهاء الخلط بين الدعوي والسياسي وتحقيق الانعطافة التاريخية في التموقع في الوسط الاجتماعي العريض، لم يتأكد النجاح في تحقيقها. وهذا يحتاج إلى نقاش عميق في الخيارات والآليات وأسباب التعثّر. والخيار السياسي للحزب في المصالحة الوطنية الشاملة واعتماد التوافق والعمل من داخل الدولة على إصلاحها وتقويتهان لا يزال يلقى مصاعب في التنزيل ويخلق خلافات تتلبس بعناوين أخرى أحيانا. والتذبذب سيّد الموقف في التوجهات الاقتصادية والاجتماعية، رغم التنصيص على الانعطافة الاجتماعية في الندوات السنوية، ولا يزال الخطاب السياسي اليومي للنهضة دون ذلك بكثير.
إنّ حزب النهضة بعراقته الممتدّة لنصف قرن وبأجياله المتعاقبة والمتعايشة، وبرصيده البشري الكبير من المنخرطين وبحضوره الميداني في كل ربوع تونس، وبنتائجه الانتخابية التي تجعله في الصدارة رغم تراجع رصيده، تواجهه تحدّيات جمّة في مؤتمره القادم الذي يتزامن مع عشرية الثورة، وسط غضب جماهيري غير خاف واحتقان اجتماعي متزايد ومخاطر تتهدّد الانتقال الديمقراطي في الصميم. وعلاوة على التحديات السياسية ذات الصلة بصعوبات المرحلة غير المسبوقة، وغياب أيّة مقترحات حلول واقعية، وضعف الحوار الحزبي الداخلي على هذا الصعيد، والاستهداف المتصاعد للنهضة عبر تشويهها ومحاصرتها والعمل على إقصائها، تبدو وضعية حركة النهضة ومستقبلها أصعب بكثير. وقد لا يكون الحجم التنظيمي الكبير الذي أعطى تفوّقا انتخابيا للنهضة في السابق، محدّدا لنجاحها مستقبلا.
ولست أبالغ حين أقول أنّ التصويت لصالح حركة النهضة في أوّل انتخابات تعدّدية وشفافة بعد الثورة نهاية سنة 2011، ومنحها المرتبة الأولى في المجلس الوطني التأسيسي، كان مكافأة لها على صمودها لعقود في وجه نظام الاستبداد واعترافا بتضحياتها، وإسهامها في مراكمة النضال حتى قيام الثورة وانتصارها. وكان هذا التصويت في نفس الوقت، إعلان مأزق “الإسلام السياسي” وبداية نهايته. فقد أدركت حركة النهضة حين تحمّلت أعباء الحكم أنّ المطلوب إقامة “دولة ديمقراطية” وليس “دولة إسلامية”، وأنّ شعار “الإسلام هو الحلّ” لا يفصح عن دستور توافقي لجمهورية ثانية، يضمن الحريات والحقوق ويرسي دعائم الحكم الديمقراطي والحوكمة الرشيدة، ولا يقدّم أجوبة عن أسئلة التنمية والتشغيل والتفاوت بين الجهات وتوفير التمويل اللازم لتطبيق البرامج الاقتصادية والاجتماعية. وأنّ الشرعية السياسية داخليا وخارجيا لا تمنحها صناديق الاقتراع لوحدها، وأنّ شروطا وطنية وإقليمية ودولية ضرورية على هذا الصعيد.
وقد أدرك القائمون على النهضة والمشاركون في المؤتمر العاشر في ماي 2016، أن لا مستقبل إيجابي لحزب حركة النهضة، إلاّ في المضي بشجاعة ومصداقية ووضوح في القطع مع الاسلام السياسي الذي أبان عن حدوده وعوائقه البنيوية. ولا غنى عن جهد فكري في المراجعة والنقد والتنظير واستشراف المستقبل. فالحداثة السياسية ليست مجرد شعارات. والمواطنة والديمقراطية والحريات الفردية والمساواة والغيرية والتمييز بين الدين والسياسة وغيرها من المفاهيم، تحتاج الى مواكبة للتطورات المعرفية والتطبيقية العالمية على هذا الصعيد، والقيام بعملية حفر ضرورية في الذهنية الجماعية، للقضاء على معوّقات التحديث والتطور في جذورها الفكرية، وإعادة تشكيل الوعي، بما يقتضيه تطوّر حركة النهضة وتموقعها الجديد.
ويفيدنا درس التاريخ أنّ حركة النهضة ليست رائدة في إدراك عوائق الاسلام السياسي وتجاوزه، وشقّ طريق جديد، فقد سبقها الى ذلك اسلاميون آخرون على غرار أحزاب في المغرب وفي تركيا. وإنّ نجاح حزب العدالة والتنمية التركي بقيادة أردوغان، في تجاوز الاسلام السياسي، قد تمّ بحسن فهم الواقع وإعطاء الأولوية للاقتصاد وخدمة الناس، وتقديم البرامج المقنعة لنهضة الأتراك، دون التخلّي عن الانتصار للهوية الإسلامية لتركيا والتشجيع على تديّن الأفراد والمجتمع، بما جعل قطاعات واسعة من الناخبين يصوّتون لحزب العدالة والتنمية في محطات انتخابية متتالية بعد أن لمسوا نجاحه في قيادتهم ونهضة بلادهم، وتحسين تموقع دولتهم إقليميا ودوليا، بل ويخرجون للتصدي لمحاولة الانقلاب العسكري على حكمه. وإنّ حركة النهضة التونسية المتأثّرة إيجابيا بالتجربة التركية، مدعوّة الى السير بشجاعة أكبر في هذا اتجاه ما حققه حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان.
قد يكون “الاسلام الديمقراطي”، صياغة وقتية في المؤتمر 10، تهيّئ لتحوّل حركة النهضة التونسية في المؤتمر 11 الى “حزب المحافظين الاجتماعي” على سبيل المثال، لتقطع نهائيا مع جدال الديني والسياسي ولتغيّر اهتماماتها جذريا. فالنهضة ذات القاعدة الانتخابية الواسعة من المحافظين المفقّرين والمهمشين بالأحياء الشعبية، والولايات الداخلية، مدعوّة أيضا الى وضوح في خياراتها الاقتصادية والاجتماعية، بما يتناسب مع هذه القاعدة الانتخابية. وإنّ انتصار حركة النهضة للهوية العربية الإسلامية في مرحلة سابقة، ودفاعها عن الديمقراطية بعد الثورة، وكسبها للمعركتين، لن يعفياها من الحاجة إلى اختبار قدرتها على حلّ المعضلات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية ذات الأولوية في هذه المرحلة. وأحسب أنّ هذه نقطة ضعفها الأساسية، التي تسنوجب اهتمام المؤتمر 11 وسيتحدّد بمقتضاها مستقبل الحزب. لكن هل يسعف “الجسم النهضوي” الثقيل “عقل النهضة” لترفع التحدّي؟ أم هل تحوّل حجم النهضة الكبير، تنظيميا وسياسيا، عبءا عليها بما يستلزم خيارات مغايرة، قد تتهدّد “وحدة الصفّ” وتخالف خيار مراكمة التجربة التي حكمت توجّهات المؤتمرات السابقة جميعا؟ وأيّة تداعيات وطنية للوضع الحزبي للنهضة، في ظلّ مشاركها في الحكم وأمام فشل بقية الخيارات في تشكيل أحزاب وازنة؟
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 174، تونس في 24 سبتمبر 2020
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 174، تونس في 24 سبتمبر 2020
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25