هل تفتح الثورات العربية عصر المواطنة في ربوعنا؟

هل تفتح الثورات العربية عصر المواطنة في ربوعنا؟

مجلة “الإصلاح” الالكترونية العدد 5 بتاريخ 2012/06/01

شكل عصر الأنوار في أوروبا مرحلة نوعية بجعل المواطنة حقا إنسانيا يتمتع به الجميع على قدم المساواة، حين أسّس روّاد التنوير الاجتماع السياسي على فكرة التعاقد وجعلوا المواطن عضوا في الدولة تربطه بها علاقة حقوق وواجبات . وجعلت الثورة الفرنسية المواطنة حقا قانونيا بإعلانها حقوق الإنسان والمواطنة، وترسّخت هذه المواطنة في أوروبا وأمريكا عبر الأجيال، بتطوير منظومة حقوق الإنسان وتغيير القوانين باطراد، باتجاه مزيد من التحررية وضمان المساواة والكرامة.

أما في منطقتنا العربية فيبدو أن مفهوم الغَلبَة، الضارب بجذوره في القرون الخوالي، ظل يؤسس الاجتماع السياسي في الدول الحديثة بدل مفهوم التعاقد. فالحاكم يستمدّ مشروعيته من قهر خصومه وغلبتهم وبسط نفوذه على الأغلبية التي وصفها الكواكبي بقوله: “عليهم يصول و بهم على غيرهم يجول” . وكان من الطبيعي أن تغيب المواطنة أو تضمر في ظل حكم الغلبة. وتلك من أهم معوقات الديمقراطية وحقوق الإنسان في ربوعنا وإحدى الفوارق النوعية بين أوضاعنا السياسية ونظيرها في المجتمعات الديمقراطية. وهي فوارق تشمل السلوك المُواطني للحكام والمحكومين في آن. فهل تفتح الثورات العربية الاخيرة على الاستبداد، عصرا سياسيا جديدا، يُكرس فيه مبدأ الحرية وتكون فيه المواطنة أساس الانتماء للدولة وتُعتمد فيه الانتخابات الحرة والتعددية أساسا وحيدا للشرعية السياسية؟ في هذا السياق تتنزل مقاربتنا لمفهوم المواطنة، وتداعيات ضمورها في ربوعنا وأولوية تفعيلها في هذه المرحلة، حتى تصير تقافة المُواطنة موجّها للسلوك الفردي، وأساسا لعلاقة الفرد بالدولة وقاعدة في الحياة الجماعية.
*في دلالة المواطنة

أن تكون مواطنا، يعني ببساطة أن تكون عضوا في دولة ديمقراطية مؤسسة على علاقة تعاقدية يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات الأساسية وأمام القانون ويكون فيها الحاكم منتخبا ويكون فيها للفرد المحكوم الحق في تدبير شؤونه الخاصة وتدبير شؤون مدينته ومجتمعه، بإبداء رأيه بحرية واتخاذ المبادرات التي تهدف إلى تحسين وضع الجماعة محليا ووطنيا، والمشاركة في الحكم باعتباره ناخبا أو مُرشحا لسلطة يخضع لها المجتمع لمدة محددة ويكون للناخبين حق مساءلة تلك السلطة أو مقاضاتها أو عزلها إذا لزم الأمر. ولا تتحدد المواطنة من خلال علاقة الفرد بالدولة فقط، بل أيضا من خلال حياة جماعية قائمة على روابط ثقافية وتشريعية وسياسية تقوم على تلازم الحق والواجب، وتقترن بتطور الإنسان وسعيه الدؤوب نحو مزيد من الحرية والمساواة والكرامة. والمواطنة بهذا المعنى، مفهوم ديناميكي يتطور بتطور المجتمعات ووعيها بحقوقها وتطويرها لمنظومة المشاركة السياسية، بترسيخ قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان عن طريق التنشئة الاجتماعية والتوعية المستمرة التي تساهم فيها الأسرة والمدرسة، والمنظمات الأهلية والهيئات الحزبية وكل الفاعلين في المجتمع.
ولئن حاول البعض تأصيل مفهوم المواطنة في تراثنا، فإني أميل إلى اعتباره مفهوما حديثا غربي المنشأ، ولا أرى في ذلك أيّ تعارض مع العمل على تبيئته واستخدامه بدلالته الأصلية. ومن جهة ثانية فإننا حين نستحضر هذا المفهوم للمواطنة في سياقه الغربي وبأبعاده المختلفة السياسية والاجتماعية والثقافية، النظرية والعملية، يذهب البعض إلى الجزم بانعدام المواطنة في ربوعنا وغُربة هذا المفهوم عن بيئتنا الثقافية، ويرون أن المطلوب إحداث تغييرات عميقة في الثقافة والممارسة السياسية من أجل تأسيس المواطنة. وهذا القول بالتأسيس في موضوع المواطنة، كما في مواضيع أخرى عديدة، يصدر عن رؤية في التغيير تقوم على الدعوة إلى إلغاء الوضع القائم وبناء الجديد على أنقاضه. وبصرف النظر عن مدى واقعية هذه الرؤية، أرى من المهم الإشارة إلى أن الرؤية الإصلاحية التي أصدر عنها في هذه المقاربة، تقوم على تطوير الواقع باتخاذ مرتكزات فيه ودفع الأمور تدريجيا في الاتجاهات التي نرومها. لذلك أرى في موضوع الحال أن المطلوب ليس تأسيس المواطنة في واقعنا، بل تفعيلها. فالمواطنة كامنة في النصوص القانونية التي تنظم الدولة والمجتمع، وحاضرة في الخطابات المتداولة، ولكن المشكلة تظل في ضمور هذه المواطنة وإفراغها من محتوياتها.
ومن جهة أخرى، فإني أذهب إلى أن تأصيل المواطنة في ربوعنا، لن يتحقق بجدال نظري حول مفهوم المواطنة، بل يبدو رهين دينامكية سياسية تعمل بجاذبية الديمقراطية، باتجاه تطوير الثقافة المدنية ومنظومة المشاركة السياسية، وذلك بمساهمة نشطة لمؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة وفي مقدمتها الأسرة والمدرسة والإعلام . كما يتوقف على دفع قوي للتنمية السياسية وإعادة تأهيل الفاعلين السياسيين.


*
تكلفة ضمور المواطنة

كان من الطبيعي أن تضمر المواطنة في دولة ما بعد الاستقلال رغم وجهها الحداثي، ولا تستفيد بلادنا، وسائر البلدان العربية، من كل طاقاتها، في ظل حكم الغلبة.  فلم يساعد تعطّل التنمية السياسية على تحقيق تقدم نوعي على صعيد تفعيل المواطنة، فساد نظام الحزب الواحد وتقلصت فرص المشاركة السياسية، وعرفت العديد من الطاقات والفئات الإقصاء أو التهميش. لكن الأخطر من ذلك أنه ممّا ساهم بقوة في غياب المواطنة أو ضمورها في ربوعنا وممّا ضاعف جاذبية التسلط في مجتمعاتنا، أن مفهوم الغلبة انتقل من الحكم إلى المعارضة، ومن السلطة إلى المجتمع.
ففي غياب التعددية السياسية وانسداد أبواب المشاركة واستحالة تغيير الأوضاع بالآليات المتاحة، انصب تفكير المعارضين “المتمرّدين “على امتلاك عناصر الغلبة لقلب الأوضاع . ولم تساعد ظروف العمل السياسي السري ومغالبة السلطة، على التفكير في أساليب التوعية بالمواطنة ومضامينها ونشر ثقافة الديمقراطية وتعزيز قدرات المجتمع المدني في مواجهة تغوّل الدولة. وربما صارت الغلبة ثقافة، فتحدث المصلحون عن قهر الحاكم للرجل و قهر الرجل للمرأة وانتشرت أدبيات في تحليل انتشار الاستبداد في ألياف المجتمع المختلفة )الأسرة ، المدرسة، ومؤسسة العمل…). ولم تستطع جهود المعارضة، رغم التضحيات الجسيمة، أن تغيير المعادلة وتفتح أفقا مغايرا للمجتمع.
وفي ظل حكم الغلبة انكفأ المواطن على نفسه وضعف انتماؤه للوطن، فتفشت اللامبالاة وعزف أغلب الناس عن المشاركة في الحياة العامة واستسلموا إلى ضرب من القدرية وفقدوا كل أمل في تغيير الأوضاع وسكنهم الإحباط. فالسياسة شأن لا يعنيهم، بل هي خطر يجب الحذر منه، والصراع بين الحكم والمعارضة، “صراع على الكراسي” ومن أجل مصالح شخصية لا ناقة لهم فيه ولا جمل. والديمقراطية والانتخابات والمشاركة والمواطنة…كلمات جميلة تثير ضحكهم، وهي أقرب للشعارات الرنانة، وإن كان لها صلة بالواقع ففي ربوع غير ربوعهم.

*
أولوية تفعيل المواطنة
شكلت التحولات العالمية وخاصة الثورة الاتصالية، والتغيّر في الموقف الدولي من أنظمة الاستبداد، عناصر ضغط موضوعية إضافية، أسهمت إلى جانب عوامل ذاتية أهمها استخلاصات عقود من الصراع  المريربين الحكم والمعارضة في ربوعنا، وتمادي الأنظمة في غيّها وتجاهلها للنقد وللمطالب المتزايدة في الإصلاح والديمقراطية والتذمر من التهميش والبطالة وضنك العيش، شكلت جميعها أرضية مناسبة لاندلاع انتفاضة شعبية عارمة في تونس، سرعان ما تحولت إلى ثورة شعبية نادت بإسقاط نظام الاستبداد والفساد، وكانت فتيل ثورات عربية تلتها بسرعة، لتصنع الربيع العربي.

في ظل هذا الوضع الجديد، صار الحديث عن الإصلاح والديمقراطية ودولة الحقوق والمؤسسات، من ثوابت الخطاب السياسي ومن المشتركات بين الفرقاء. ومن المفيد في هذا السياق التشديد على حيويّة تحدي تفعيل المواطنة بما يضعنا على طريق الحكم الرشيد الذي يعد من شروط المناعة والبقاء والنجاح في مواجهة التحديات المستقبلية لعالمنا المليء بالتقلبات. فإذا ضاع هذا الهدف وتبدّدت الجهود في المُغالبة وإدارة الملفات الظرفية، نخشى أن يستمر منطق حكم الغلبة على حساب ذهنية المواطنة ودولة المؤسسات، فنخسر رهانات الحاضر والمستقبل. وإذا كان من المشروع والمهم أن تنشغل السلطة والأحزاب السياسية بالاستحقاقات العاجلة، فمن باب أولى أن يُعيروا الاهتمام اللازم للمستقبل المنظور والبعيد للأجيال.
إن أيّ تعبئة للمواطنين في رفع  مختلف التحديات وفي تحقيق أيّ إصلاح سياسي لن تتيسر إلاّ بتسهيل دخول المواطن معترك الحياة العامة والارتقاء به إلى مستوى المواطنة بما تحمله من حقوق وواجبات والتعبير عن رأيه والمشاركة الفاعلة في صياغة القرار ونقاشه. ولن نستطيع في كل الأحوال، معالجة المشاكل ودرء المخاطر مع إبقاء المواطن في وضع سلبي فاقد للاهتمام بالشأن العام، مُنسحِبا ومُستقيلا كلّيا، نافرا من العمل الاجتماعي ومشكّكا في أيّ تجربة وفي مؤسسات الدولة، فاقدا للثقة في الحكومة وفي خصومها، متّهما الجميع بشتّى التّهم، ومكتفيا بعلاقته زبونية ومتخلّيا عن مواطنته ومسؤوليّته.

لهذا كله ممّا تقدم بسطه، ولغيره ممّا لم يسمح به المجال، نعد ّتفعيل المواطنة في مقدّمة أولوياتنا. فلكي تبرز الديمقراطية التي ننشدها جميعا، بديلا جذّابا عن عهود الاستبداد والفساد، لا بد أن تكون المواطنة ثقافة اجتماعية وموضوع اهتمام جماعي وعنوانا لعصر جديد.

                                                             محمد القوماني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مقال منشور بمجلة “الإصلاح” الالكترونية العدد 5 بتاريخ 2012/06/01

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: