هل تتغيّر موازين القوى السياسية في أفق الانتخابات المحليّة؟
جريدة الرأي العام، العدد3، تونس في 20أفريل 2017
بدت النخب السياسية التونسية المؤثرة في مسار تونس ما بعد الثورة حريصة إلى حدّ الحساسيّة على استبعاد أمرين اثنين، كان يُنظر إليهما باعتبارهما ركيزتين للاستبداد، وهما هيمنة الحزب الواحد على المشهد السياسي وهيمنة الشخص الواحد على الدولة. وهذا ما لا يصعب على أيّ متابع التقاطه من مجمل الإجراءات والخيارات الأساسية. إذ تشكّلت عشرات الأحزاب في ظرف وجيز. وأُقرّ نظام انتخابي يمنع عمليّا هيمنة حزب واحد على البرلمان ويفرض حدّا أدنى من التعديّة داخله. وجاء دستور الثورة ليضع نظاما سياسيا يوّزع السلطة المركزية بين ثلاثة رئاسات ويقرّ سلطات محلية وجهوية تحدّ من المركزية ويجعل للمعارضة موقعا في القرار. وآلت انتخابات نهاية سنة 2014 إلى تشكيل مشهد حكم، تحالف فيه الحزبان الرئيسيان المتنافسان في الانتخابات قبل ذلك. فهل تتغيّر موازين القوى السياسية في أفق الانتخابات المحلية المقرّرة نهاية سنة 2017 وفي ظلّ الحراك الحزبي المسجّل في الفترة الأخيرة؟
لا خلاف على أنّ ترسيخ الديمقراطية والتداول على الحكم يقتضيان توازنا في المشهد الحزبي، حتّى يكون للتنافس معناه وحتى لا تكون الهيمنة مغذّية للاستبداد مجدّدا. وهذا أحد أهمّ أسباب تشكّل حزب حركة نداء تونس الذي سوّق نفسه بهدف إحداث التوازن في المشهد الحزبي بعد التقدّم الملحوظ لحزب حركة النهضة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وبوادر هيمنته على الحكم رغم الشراكة المعتمدة في صيغة الائتلاف الثلاثي الحاكم المعروف ب”الترويكا”. وقد لاقت هذه الفكرة تجاوبا في تجميع كثير من خصوم النهضة في نداء تونس. وساهم ذلك مع عوامل أخرى معقّدة في إحداث التوازن المفقود، بل في تقدّم النداء على النهضة في تشريعية 2014. لكن المفاجأة حصلت باضطرار الأوّل إلى التحالف مع غريمه الذي حلّ ثانيا في الترتيب مع فارق بسيط، وحزبين صغيرين آخرين، لتشكيل أغلبية برلمانية حاكمة يحتاجها استكمال الانتقال الديمقراطي وتجد في التوافق المسجّل بين الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي منذ ما يعرف بلقاء باريس السند والضامن. وليتوسّع الائتلاف الحاكم لاحقا إلى ستّة أحزاب ضمن ما يعرف بحكومة الوحدة الوطنية حاليّا.
مع اقتراب استحقاق الانتخابات المحليّة نهاية 2017 وفي أفق الاستحقاق الدستوري للانتخابات التشريعية والرئاسية نهابة 2019، تشهد الساحة السياسية حراكا ملحوظا بتشكيل أحزاب جديدة أو تحالفات حزبية حول شخصيات لعبت أدوارا متقدمة في الحكم بعد الثورة أو قبلها. وتشتغل هذه الكيانات السياسية مجدّدا على نفس الفكرة الأساسية التي ظهرت بعد انتخابات 2011، في ملء الوسط وإحداث التوازن المفقود مع الحليفين في الحكم النداء والنهضة. وهذا حراك محمود وواعد في ظاهره لكن تحفّه أسئلة هامة وتتعلّق به شكوك حول مستقبله وقدرته على رفع التحدي بتغيير موازين القوى السياسية في أفق الانتخابات المحليّة في المدى المنظور وما يليها من استحقاقات في المدى الأبعد.
فليس كل مرّة تسلم الجرّة كما يقال في المثل. وهذا يصدق على الحزبين الشريكين الرئيسيين في الحكم ومدى صمودهما أمام مصاعب المرحلة وكمّ النقد من خصومهما الذين يروّجون لفشلهما، وأمام الاحتقان الشعبي تجاه سياساتهما، مع النفاذ التدريجي لصبر الموجوعين والعاطلين والجائعين. كما يصدق في شأن منافسيهم الذين يجدّدون أنفسهم تحت عناوين مختلفة ويعيدون نفس الخطابات والتكتيكات تقريبا في الضديّة أو الوسطيّة أو التوازن أو الإنقاذ أو الخيارات البديلة… فما نجح مرة يفقد جدّته وجاذبيّته.
ومن جهة أخرى فإنّ المشهد الحزبي بتونس لم يتشكل بعد على خلفيّات وانتماءات اجتماعية واضحة، ولذلك فإنّ حزبي النداء والنهضة اللذان يتجدّدان بدورهما في الأفكار والخطاب والأشخاص ويستفيدان من أخطاء الماضي البعيد والقريب، نراهما عمليّا يملآن مساحة كبرى في الوسط الاجتماعي والثقافي ويفرزان تجذّرا محدودا على أطرافهما، ولا يتركان مساحة ذات بال لمنافسيهما على هذا الوسط. كما أنّ المشتغلين على فكرة ملء الوسط بين النداء والنهضة مخترقان سياسيا وفكريا بجاذبية هذين الطرفين أو استقطابهما للمشهد. فللوسط محاسنه ومساوئه أيضا. ولعلّ ذلك الدرس الأوّل المستخلص من فشل تجارب عديدة في التقارب والاندماج منذ الثورة إلى الآن.
يضاف إلى ما سبق أنّ حزبي النهضة والنداء يغرفان من رصيد تاريخي لم ينفد بعد، ويتطلّعان إلى تصالح تاريخي مع الماضي، يعزّز مصالحة شاملة ومطلوبة في الحاضر، لتأمين مستقبل من الاستقرار السياسي الحيوي في ظلّ تقلبات إقليمية ودولية بالغة الخطورة. وهما يعبّران عن حاجة موضوعيّة مفتقدة لدى خصومهم المنقسمين على أنفسهم أيديولوجيا وتنظيميا والمتحدين سياسيا في تبني منهج إقصائي لخصومهم. إضافة إلى ما يملك النداء والنهضة من قوة ذاتية، يصعب على منافسيهم اكتسابها في ظرف وجيز تفرضه الاستحقاقات القريبة بمقياس الزمن السياسي.
لهذه الاعتبارات مجتمعة وأخرى لا يسمح المجال بالاستفاضة فيها، نرى من الصعب أن تتغيّر موازين القوى السياسيّة في أفق استحقاق الانتخابات المحليّة. لكن يظلّ للحراك الحزبي أهميته وبريقه، فهو إن لم يغيّر الموازين كليّا، فإنّه سيضغط إيجابيا على القوى الأساسية التقليدية. ولا نستبعد المفاجآت، إذ يخطئ في الغالب من يصادر المستقبل ويجزم بالحتميّات. لكن يبقى الجوهر في أن تنضبط العملية السياسية بالدستور وبمقتضيات الديمقراطية، ولا تستبدل فيها المنافسة بالاستعداء ولا يُلجأ فيها للاستقواء بالأجنبي ولا يحصل فيها مزيد من عزوف الناخبين.