هل أخطأت حركة النهضة؟
لا تزال الأزمة السياسية المتّصلة بالخلاف حول مصير حكومة السيد يوسف الشاهد تلقي بظلالها السلبية على المشهد العام بتونس. ولم تغيّر الأطراف الأساسية مواقفها المعلنة قبل تعليق النقاش حول وثيقة قرطاج2 منذ شهر. ففي حين يصرّ حزب النداء واتحاد الشغّالين على المطالبة بتغيير عميق ورحيل الشاهد، تتمسك حركة النهضة واتحاد الأعراف بتغيير جزئي في الحكومة لا يشمل رئيسها. ورغم أنّ الصراع كما لا يخفى على المتابعين يدور عمليا بين القصبة وقرطاج وداخل نداء تونس أساسا، فإنّ بعض الأوساط السياسية والإعلامية تسوّق الصراع على أنّه يجري بين حركة النهضة ومخالفيها ويحمّلونها مسؤولية تعطّل المسار والاستمرار في مساندة حكومة فاشلة ومنع التوافق على حلّ للخروج من الأزمة. فهل أخطأت حركة النهضة الموقف فعلا هذه المرّة؟ وهل تشهد الأيام القادمة انزياحا في مواقف مختلف الأطراف باتجاه تجاوز أزمة سياسية لم تعد تقبل التمديد في وضع اقتصادي واجتماعي صعب ومنذر بالانفجار، لا سيما بعد الزيادات الموجعة المقرّرة والمبرمجة في الأسعار؟
حين ارتفع صوت السيد نور الدين الطبوبي أمين عام اتحاد الشغّالين في اجتماعات الاتحادات الجهوية للشغل خلال الربيع الماضي مناديا بضرورة سريان دماء جديدة في شرايين الدولة بإجراء تغيير في الحكومة وفي بعض المسؤوليات في الوظائف العليا، ثمّ نقل المطلب بوضوح إلى اجتماع أطراف وثيقة قرطاج، حينها كان الاتفاق بين حزبي النداء والنهضة على تأجيل النظر في التغيير إلى ما بعد الانتخابات البلدية في 6 ماي 2018، وكان لهما ما أرادا. تمّ الاشتغال في الأثناء على إعداد وثيقة قرطاج2 من قبل خبراء من مختلف الأطراف لتكون أساسا للتغيير المطلوب وبرنامج إجراءات عاجلة للإنقاذ تلتزم بتنفيذها الحكومة في أفق الاستحقاق الانتخابي لأواخر سنة 2019، فكان التوافق على 63 نقطة اقتصادية واجتماعية، وتمّ تأجيل الحسم في النقطة 64 السياسية المتعلقة بالتغيير الحكومي، إلى اجتماع الرؤساء.
وحين اجتمع رؤساء الأحزاب والمنظمات المعنية بدعوة من رئيس الجمهورية بعد الانتخابات البلدية وقبل الإعلان عن النتائج النهائية، كانت رغبة اتحاد الشغل مُعلنة ومستعجلة لتغيير عميق يشمل الحكومة برمتها، التي تأكد فشلها في نظره ولم تعد تقبل الاستمرار. وكان الجديد في انضمام حزب نداء تونس أساسا وأطراف أخرى إلى هذا المطلب العاجل. أما حركة النهضة فعبّرت عن رغبتها في المحافظة على الاستقرار الحكومي بإجراء التغيير اللازم في الحكومة بعد تقييم أداء أعضائها مع المحافظة على رئاسة الشاهد لها. فالفشل نسبي في نظرها والمرحلة لا تتحمّل تغييرا كليا للحكومة، خاصّة متطلّبات المفاوضات مع الجهات المالية المانحة والمقرضة لتونس، ناهيك أن التغيير المستمر للحكومات لم يحلّ المشكل في السابق، وأنّ تغيير السياسات أهم من تغيير الحكومات. ووجدت النهضة مساندة في ذلك من اتحاد الأعراف أساسا وأطراف أخرى. أمّا رئيس الجمهورية فحرص على إظهار الحياد، معتبرا الحسم في الموضوع من مشمولات الأطراف المجتمعة. وأمام تعذّر حصول توافق، قرّر الرئيس تعليق النقاش يوم 28 ماي الماضي.
لم تتوقّف الاتصالات والحوارات بعد تعليق النقاش رسميا. فقد جرت لقاءات ثنائية عديدة، خاصة بين الباجي والطبوبي أو الباجي والغنوشي من جهة أو بين الغنوشي والطبوبي من جهة ثانية. كما حصلت اتصالات بين الطبوبي وعدد من قيادات الأحزاب والمنظمات الأخرى سواء المشاركة في حوار قرطاج أو غيرها. وكان كل طرف يحاول الإقناع بوجهة نظره وجرت الحوارات في أجواء لطيفة ووديّة. واللافت أنّ الأيام واللقاءات المعلنة وغير المعلنة لم تزد كل طرف إلاّ تمسكا بموقفه الأوّل. بل زاد اتحاد الشغل الخلاف جرعة حين صرح الناطق الرسمي باسمه سامي الطاهري أن تغيير الشاهد قضية حياة أو موت بالنسبة للاتحاد. وبدا التحشيد واضحا ضدّ الشاهد من قبل المطالبين برحيله وكان الموقف سرياليا حقا، من خلال تحشيد حزب النداء للإطاحة برئيس حكومته الذي جاء به من بين قياداته المؤسسة، مقابل تعبير حزب النهضة المنافس للنداء عن رغبته في ضمان الاستقرار السياسي ببقاء الشاهد. وهكذا تصدّع الوفاق بين الحزبين الرئيسيين الذي كان عنوان نجاح في الفترة الماضية. فهل أخطأت حركة النهضة الموقف فعلا هذه المرّة؟ وهي التي كانت الأحرص على التوافق سابقا.
حقّقت حركة النهضة مكاسب سياسية لا تخفى من خلال موقفها المبدئي من التغيير الحكومي المطلوب. فقد عزّزت صورتها كحزب مسؤول ورصين ومنضبط، حريصا على الاستقرار السياسي ومعليا للمصلحة الوطنية على الحزبية. ولذلك قال زعيم النهضة الشيخ راشد الغنوشي أنّ الحركة قبلت التنازلات في السابق في حقّها، لكنها لن تقبل التنازل حين يتعلق الأمر بالمصلحة الوطنية العليا. كما أظهر الاختلاف في الموقف مع النداء أنّ إدارة التوافق لها أوجه عديدة، وأنّ التوافق يتأثر بالظّرف والموضوع وموازين القوى، وهو لا يعني التطابق ولا تبعية طرف لآخر. كما حرصت النهضة على عدم حشر نفسها في صراع داخلي لا يعنيها، تبيّن لكل متابع موضوعي أنّه يدور داخل نداء تونس وبين مديره التنفيذي ورئيس حكومته أساسا كما أفصح عن ذلك الشاهد في كلمته المشهورة. وبقدر تمسّك النهضة بموقفها المبدئي الذي تقدّر صوابه، فهي لا تنفك تجدّد دعوتها لاستئناف الحوار بصيغة أو بأخرى. وهي متمسكة بالتوافق مع رئيس الجمهورية ومع حزبه وبقية أطراف وثيقة قرطاج. ولذلك تحرص على استمرار اللقاءات الثنائية ما أمكن ذلك مع مختلف الأطراف دون استثناء. وهي أحرص على علاقة جيدة بالمنظمات الوطنية وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل. ورغم مبادرة نداء تونس بفضّ التوافق بصفة أحادية وتكرار ذلك على لسان بعض قادته وانخراطهم في خطاب الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي، فإنّ النهضة نأت بنفسها عن ذلك، وتبذل جهدا في التعقّل والتقارب واستمرار الحوار والتوافق.
لا معنى للتمسك بالحوار من مختلف الأطراف إذ لم يحتمل امكانية مراجعة الموقف والتفاعل مع الأطراف الأخرى إيجابيا. ومهما حققت مختلف الأطراف من مكاسب سياسية من خلال مواقفها المعلنة إلى حدّ الآن، فإنّه لا أحد يضمن صوابية الموقف إلى ما لا نهاية ولا استمرار المكاسب، إذا تغيرت المعطيات ولم يتمّ تعديل الموقف. لذلك لا نستبعد انزياح مختلف الأطراف عن تصلبها الظاهر باتجاه التقارب والتوافق مجدّدا بصيغ تونسية مُبتكرة. وقد تكون كلمة رئيس الجمهورية المنتظرة قريبا، والتي يعكس تأخيرها تردّدا ما في السابق، قد يكون الرئيس حسمه، منعرجا جديدا في اتجاه تجاوز الأزمة السياسية للتفرّغ للأزمة الاقتصادية والاجتماعية.
فالرئيس صار أكثر تصميما على تغيير عميق للحكومة. وحركة النهضة التي رفضت أن تكون أداة بيد أطراف أخرى لتغيير الشاهد، لا ترى نفسها درعا للشاهد أيضا. وتنازل الأطراف الوطنية لبعضها من أجل كلمة سواء، لا معنى فيه لغالب أو مغلوب، والمنتصر فيه هو الوطن. وكلّما عجلنا بحلّ توافقي للأزمة السياسية، نحبط مساعي غير حسنة داخلية وخارجية تعدّدت عناوينها، لعودة الاستقطاب والاحتراب، ونمنح تجربتنا في الانتقال الديمقراطي فرصا أكبر لتثبيت نجاح سياسي نعدّه شرطا ودافعا لنجاح اقتصادي نتطلّع إليه.
*منشور بجريدة الراي العام، العدد 63، تونس في 28 جوان 2018.