هذا “تقتاقو” وما زال “فلاّقو”.. هل ترسم الانتخابات البلدية الخارطة الحقيقية للأحزاب؟

رغم طابعها المحلّي، تتأكّد أكثر فأكثر التداعيات الوطنية للانتخابات البلدية. لا يتعلق الأمر فقط بتجربة جديدة في الحكم المحلّي والحوكمة التشاركية أقرّها دستور الثورة، ولا بتأثير نتائج استحقاق بلديات ماي 2018 على استحقاقي التشريعية والرئاسية في 2019، بل بدأت تلك التداعيات بتأثير الترشحات للبلدية على إعادة تشكيل الخارطة الحزبية لما بعد الثورة وصورة الأحزاب. وفي انتظار النتائج التي ستسفر عنها صناديق الاقتراع مساء الأحد 6 ماي القادم، يمكن تسجيل استخلاصات بالغة الأهمية من خلال الجولة الأولى للبلديات المتّصلة بتقديم الترشّحات.
1 ـ خلافا لتوقعات المشكّكين في مسار الانتقال الديمقراطي والمتشائمين بمستقبل الثورة، انطلقت المرحلة الانتخابية لبلديات ماي 2018 بمؤشرات ايجابية. فقد تجاوز عدد القائمات المترشحة الألفين. إذ أعلنت هيئة الانتخابات رسميا بعد غلق باب الترشحات عن 2173 قائمة ل350 دائرة بلدية يتقارب فيها عدد القائمات الحزبية منها بعدد المستقلة. وبلغ عدد المترشحين 57.020 يكاد يكون نصفهم من الشباب، فضلا عن الحضور النسائي بالتناصف بمقتضى القانون. وهذه الأرقام مبدئيا تجيب لوحدها عن ترويج البعض منذ مدة لاستحالة التنافس في بعض البلديات أو عدم التقدم أصلا بقائمات في بعض الدوائر، لصعوبة شروط الترشح من جهة وللعزوف عن المشاركة من جهة ثانية.
2 ـ نجحت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بامتياز في الالتزام بالروزنامة وتطبيق القانون الانتخابي وتيسير عمل المترشحين في هيئاتها الفرعية. وقد ساهم هذا النجاح بدوره في تبديد المخاوف حول أداء الهيئة بعد ما عاشته من أزمات خلال الفترة المنقضية. وفي انتظار الإعلان عن القبول النهائي للقائمات المترشحة، وبدء مسار الحملة الانتخابية وبقية مراحل العملية الانتخابية، يبدو الجميع مطمئنين لأداء الهيئة وهذا مهمّ جدّا في القبول بالنتائج لاحقا. وقد زادت تصريحات رئيس الحكومة الأخيرة في دعم المسار الانتخابي في إشاعة الاطمئنان.
3ـ لم تكن التوازنات الحزبية مفاجئة من خلال الترشّحات. فقد اقتصر الحضور في جميع الدوائر الانتخابية على حزبي النداء والنهضة، بفارق كبير مع بقية التشكيلات الحزبية. ولئن بدّد حزب النداء، تشكيكات خصومه من المنسلخين منه خاصة، حول عافيته وقدرته على التعبئة، فإنّ أهمّ ما كشفت عنه القائمات المترشحة هو هشاشة الخارطة الحزبية لما بعد الثورة. فمن بين أكثر من 200 حزب على القائمة الرسمية، تقدم عدد محدود جدا من الأحزاب بقائمات حزبية، وأخفت بعض الأحزاب ضعفها الذاتي بالمشاركة في قائمات ائتلافية، لم تبلغ الخمسين بالنسبة للاتحاد المدني وأدركت الثلث بصعوبة بالنسبة للجبهة الشعبية. أمّا عشرات الأحزاب الأخرى، بما فيها ذات السبق قيل الثورة، فلا حضور لها أصلا في المشهد، فقد اندثرت أو في طريقها إلى ذلك. وبات مطلوبا أن تكون للقائمين على تلك الأحزاب الشجاعة الأدبية والمسؤولية السياسية، في حلّ تلك الأحزاب وإنهاء وجودها القانوني، رفعا للبس وتوضيحا للصورة. فقد تصحّح الانتخابات البلدية فوضى الخارطة الحزبية. إذ بعد كثرة الأحزاب التي أتاحها مناخ حرية التنظّم بعد الثورة وعدم معرفة الأطراف ببعضها وعدم تقدير الصعوبات والمتطلبات، آن الأوان لإعادة تشكيل المشهد الحزبي بما يعطي للتعدّدية معناها وفعاليتها. ومن المُفترض أن يساعد القانون المزمع للأحزاب على ذلك.
4 ـ يبدو من خلال حجم الترشّحات والاستعدادات لهذا الاستحقاق الانتخابي أنّ التنافس سيكون أساسا بين حزبي النداء والنهضة، دون إسقاط فرضية المفاجآت، فللانتخابات أسرارها التي تحتفظ بها الصناديق. ولن يتوقّف إحراج بقية الأحزاب عند عدد قائماتها التي لا ترشّحها للمنافسة وخاصة لطرح نفسها بديلا، بل سيكون الإحراج أشدّ يوم النتائج. وكيف لمن وجد صعوبات في جمع العدد المطلوب من المترشّحين في مختلف الدوائر، أن يتطلّع إلى جمع أصوات الناخبين المطلوبة للفوز بمقاعد؟ ويبدو أنّ عدد القائمات المستقلة الذي بلغ 879 يخفي كما أسلفنا خطّة بعض الأطراف الحزبية في المناورة والدخول في الربح وعدم تحمل الخسارة. فقد أفادت بعض التصريحات لقيادات حزبية أنهم يدعمون قائمات مستقلة على غرار الجبهة الشعبية والجمهوري والتيار الديمقراطي والبديل والوطني الحر والإرادة… وجاء في بيان الاتحاد المدني أنه يدعم 190 قائمة مستقلة، إضافة إلى قائماته الائتلافية والحزبية، بما يجعل الحاصل (382) يفوق عدد الدوائر البلدية في تناقض طريف حواه البيان. أما دعم النداء لبعض القائمات المستقلة كما أفاد تصريح السيد سفيان طوبال فهو لمآرب أخرى لا تخفى.
5 ـ أثار ترشيح حركة النهضة لمواطن يهودي بإحدى قائماتها جدلا واسعا داخليا وخارجيا. ومرّة أخرى تُبين حركة النهضة على قدرتها على تسريع نسق التحديث بتونس وخلق الحدث. فقد كان هذا الترشيح تكريسا لمعنى المواطنة والتزاما بمقتضى أحكام الدستور والقانون وخروج النهضة عن الصورة النمطية التي يحرص خصومها على إلصاقها بها. فترشيح سيمون سلامة الذي أُعلن عنه في أسبوع تقديم الترشحات، جاء مفاجئا ومُحرجا لخصوم النهضة الذين تلعثموا في التعليق عليه. كما كانت حركة النهضة وفيّة في تشكيل قائماتها للتناصف الأفقي في رئاسة القائمات بين النساء والرجال، ولم تسجل عليها هيئة الانتخابات سوى مخالفة واحدة ستتداركها، في حين كانت مخالفات منافسيها فاضحة، لا سيما الجبهة الشعبية التي قدمت 86 رجلا على رأس قاماتها مقابل 46 امرأة، مسجّلة 20 مخالفة عليها تداركها، أو ستضطر الهيئة لإسقاط بعض قائماتها. كما رشّحت النهضة أكثر من 50 شابّة وشابّ على رأس قائماتها. وتلك مؤشرات مهمّة في كسر الصورة النمطية عن الأحزاب في انتظار الحملة الانتخابية.
سواء تعلّق الأمر بتصحيح الخارطة الحزبية أو الصورة النمطية عن الأحزاب، وفي انتظار نتائج هذا الاستحقاق، لم نجد أبلغ للتعبير عن مؤشرات مرحلة الترشّحات واستخلاصاتها، من المثل التونسي الشعبي هذا “تقتاقو” وما زال “فلاّقو”.
محمد القوماني
* نشر بجريدة الرأي العام، العدد 46، تونس في 01 مارس 2018

https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/28378311_1841900962500346_634745249712274180_n.jpg?oh=b71c26fc24d500fcf8449b856bc18236&oe=5B05D8B9

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: