نهضة جديدة لأدوار جديدة: خواطر في ذكراها السابعة والثلاثين

  

تحتفل حركة النهضة بالذكرى السابعة والثلاثين لتأسيسها يوم 6 جوان1981، وإن كان عمرها الحقيقي يمتدّ إلى أكثر من  أربعين سنة، إذ يعود وجودها إلى ما قبل هذا التاريخ الذي تقدّمت فيه أوّل مرة بمطلب تأشيرة للعمل القانوني. وهي بذلك تعدّ أعرق الأحزاب التونسية الناشطة اليوم، ناهيك أنها اختارت الاستمرارية ومُراكمة التجربة وتطوير نفسها دون قطيعة مع ماضيها والبداية من جديد كما فعلت أحزاب أخرى عديدة. هذه الحركة التي لاحقها الاستبداد على فترات مختلفة من تاريخ تونس المعاصر ومنع تنظّمها القانوني وشوّه تطوّرها الفكري وأربك مسارها السياسي وألحق أذى كبيرا بالمنتسبين إليها، كانت لها مساهمة فعّالة في النضال من أجل التحرّر السياسي وديمقراطية الحكم، وهي تتموقع بعد الثورة كأهمّ مكونات المشهد السياسي وشريك أساسي في الحكم. ونروم بهذه المناسبة أن نرصد تطور حركة النهضة من خلال أهمّ بيانات ذكرى تأسيسها ونتوقف عند موقعا في المشهد التونسي الحالي والمهام الجديدة المنوطة بعهدتها في ضوء تطور البلاد واختلاف السياق.

نشأ الاتجاه الإسلامي بتونس (النهضة لاحقا)، على غرار سائر التيار الإسلامي عموما، في سياق ردّ فعل ثقافي على تيار “العلمنة” في الفكر العربي الحديث. فكانت دعوة الإسلاميين إلى “أسلمة المجتمع والدولة” تحت عناوين مختلفة أبرزها أنّ “الإسلام نظام شامل للحياة”، مواجهة فكرية وسياسية لدعوات “لإبعاد الإسلام من الدولة والمجتمع” باسم العلمانية، وتأثّرا بالتجربة الأوروبية الحديثة في “الصراع مع الكنيسة”.  غلب على العمل العفويّة والبحث عن الذات خلال السنوات الأولى، ولم ينعقد المؤتمر التأسيسي إلاّ بعد عشريّة من العمل سنة 1979.

بعد انكشاف التنظيم في ديسمبر 1980 للمصالح الأمنية، والذي عكست هيكلته السرية وتسميات المسؤولين من “أمير” وعامل” و”وكيل” … تقليدية “الجماعة” وانشدادها إلى التراث، جاء القرار بالإعلان عن “حركة  الاتجاه الإسلامي في 6 جوان سنة 1981 والتقدم بطلب تأشيرة حزب سياسي فكان المنعرج التاريخي.

لم تكن الديمقراطية من أولويات الإسلاميين  ولا من معجمهم، تماما مثل اليساريين والقوميين من منافسيهم، ولا حتّى من ثوابت خطاب الحكم آنذاك. ولذلك لا عجب أن يخلو البيان التأسيسي للحركة من أيّ استخدام لمصطلح الديمقراطية ومفردات الحداثة السياسية.       فقد كان “الإسلام” هو “المستهدف الأوّل” كما جاء في البيان التأسيسي، وليست الحريات وحقوق الإنسان على سبيل المثال، كما صارت تعبّر عن ذلك البيانات لاحقا. وكان الهدف “إعادة الاعتبار للإسلام فكرا وثقافة وسلوكا وإعادة الاعتبار للمسجد…” وليس بناء الدولة الديمقراطية وتحقيق التنمية كما يُقال اليوم.

دخلت الحركة في مواجهة مفتوحة مع النظام نهاية حكم بورقيبة ومهدت الطريق لانقلاب 7 نوفمبر 1987. ثمّ تطوّر خطابها السياسي مرة ثانية بحرصها على الاندماج وتطبيع وضعها القانوني، بعد مشاركتها غير المباشرة في الانتخابات التشريعية لسنة 1989، وتغيير اسمها من ” الاتجاه الإسلامي” إلى “حركة النهضة” رغبة في الخضوع إلى قانون الأحزاب حسب فهم النافذين في الحكم آنذاك.

كانت المواجهة الثانية والمحنة الكبرى مع حكم بن علي الذي سلّط على الحركة أقسى درجات القمع وسياسة الاستئصال حتى أنهى وجودها تنظيميا بالداخل وانتقلت قيادتها رسميا إلى الخارج. ولم تبدأ الحركة في استعادة عافيتها نسبيا إلا بعد مؤتمرها السادس بالمهجر سنة 1995  الذي أقرّ تقييما معمّقا لمسار الحركة ووقف على أخطائها في المواجهات غير المحسوبة ونشر ذلك لاحقا في كتاب أبيض بعنوان”البيان الشامل”. وكان ذلك المؤتمر إيذانا بنقلة نوعية في المعجم السياسي والخطاب والعلاقات والسياسات.

تمّت  إعادة موقعة الحركة الإسلامية في بيئتها التونسية في هذا البيان، وتمّ التأكيد على صلتها بحركة الإصلاح والنضال الوطني والنقابي. كما تمت الإشارة  إلى العواقب السلبية للدخول الاضطراري والمستعجل في المعترك الحزبي ثم في المواجهة السياسية. بل تمّ الإقرار بوضوح أنه “وقع استدراج الحركة لمخالفة استراتيجيتها بالدخول قي مواجهة لطالما حاولت تجنبها”. وكان هذا التقييم تأشيرا على بدء مرحلة جديدة ثم تابعت الحركة هذا التطور في بياناتها  بمناسبة ذكرى التأسيس في السنوات اللاحقة.

ولكنّ التطور الكبير حصل بصفة خاصة من خلال مراكمة الوعي بالقمع  الذي تعرّضت له الحركة في نضالها ضدّ الاستبداد، على غرار ما ورد ببيان ذكرى التأسيس في 2008 “بعد محاكمات سياسية في صائفة 1981 ومنذ تلك السنة إلى حدّ اليوم والحركة لا تخرج من محنة إلاّ لتسلّط عليها أخرى وكل هذه المحن تدور حول ذات القضية وهي قضية الحريات والحق في العمل السياسي والاجتماعي والثقافي.”

وعبر هذا الاستثمار في الديمقراطية والمشاركة في الحركة الحقوقية والسياسية التي مهدت لثورة 17 ديسمبر 2010/ 14 جانفي 2011، وأيضا عبر وعي الحركة المتنامي بإكراهات المحيط الإقليمي والدولي، الذي كان غائبا أو ضعيفا إلى حدّ كبير إلى نهاية الثمانينات، وكذلك من خلال تجربة العمل المشترك مع المخالفين، في المعارضة ثم في الحكم لاحقا، سلكت حركة النهضة طريقها إلى النضج السياسي وطوّرت معجمها السياسي وممارستها.

ففي بيان 6 جوان 2004 تمّت الإشارة إلى أن الحركة الإسلامية المعاصرة بتونس تابعت ما بدأه شيوخ الزيتونة، بل ذكر البيان لأول مرّة أنّ “أهمّ وثيقة إصلاحية إسلامية أفصح عنها القرن التاسع عشر هي “أقوم المسالك…”بإمضاء الوزير خير الدين وإن كانت في الحقيقة ثمرة جهد إصلاحي وفكري جماعي بين رجال الإدارة وعلماء الزيتونة”.

وفي بيان 6 جوان 2006، وعلى خلفية ما كانت تشهده البلاد من حوار فكري وسياسي بعد إضراب18 أكتوبر 2005 الذي شاركت فيه عناصر من حركة النهضة مع آخرين من أطياف سياسية وأيديولوجية مختلفين عنها، تم التنصيص بوضوح على  أنه “كما لا مجال للتوزيع الحصري لصفات الإسلامية، فلا مجال أيضا للاستئثار بصفات الديمقراطية والحداثة والوطنية. فنحن ندّعي أن لنا وصلا بتلك المشاريع والمطالب، ولا تناقض عندنا بين الإسلامية والديمقراطية وبين الإسلامية والحداثة فضلا عن الإسلامية والوطنية”.

وفي بيان 6 جوان 2011، بعد الثورة، أكدت النهضة هذا التطور المطّرد في وعيها وخطابها فشدّدت على “التزامها بمقوّمات الدولة المدنية الديمقراطية التي لا سند لشرعيتها غير ما تستمدّه من قبول شعبي تفصح عنه صناديق الاقتراع عبر انتخابات تعدّدية نزيهة. كما أكدت قاعدة المواطنة والمساواة بين الجنسين أساسا لتوزيع الحقوق والواجبات كتأكيدها لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان”.

عقدت حركة النهضة مؤتمرها الوطني العاشر في ماي 2016، بعد تجربة استثنائية في الحكم، وجاءت مختلف اللوائح مؤكدة العزم على تحقيق انعطافة استراتيجية بدت ضرورية. فكانت من أهم مخرجات المؤتمر التخصّص في العمل السياسي والتخلص من الشمولية والانفتاح على الكفاءات والأوساط التونسية المختلفة وتجاوز “الإسلام السياسي” إلى “الإسلام الديمقراطي” واعتماد خيار التوافق وإعطاء الأولوية لإنجاح المسار الديمقراطي وإعلاء المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية. كما تمّ التجديد الهيكلي في المكاتب الجهوية والمحلية على أساس مخرجات المؤتمر العاشر وفي إطار التنافس الديمقراطي الداخلي.

وجاءت بلديات ماي 2018 لتقدّم حركة النهضة على أنها “حزب ديمقراطي ذو مرجعية إسلامية”، وكانت لذلك آثار واضحة في تغيير الصورة النمطية عن النهضة وتحسين مقبوليتها وتوسيع شرائحها الانتخابية وتقدّمها في أغلب المدن الكبرى التونسية، وكسبها النتائج في مواقع غير تقليدية لها. لتتموقع “النهضة الجديدة” كحزب وطني جغرافيا واجتماعيا وسياسيا.

هذا التموقع الجديد للنهضة يفرض عليها أدوارا جديدة لعل أبرزها خروج الحزب من دائرة العمل على الاعتراف والمشاركة والإدماج، إلى العمل على المساهمة في رفع التحديات الاقتصادية واجتراح الحلول الأفضل للتداعيات الاجتماعية للإصلاحات المتأكدة على هذا الصعيد. فهل يكون الاستحقاق الانتخابي الدستوري لنهاية سنة 2019 طريق النهضة لتأكيد انعطافتها الاستراتيجية واستحقاقها تجديد ثقة الناخبين بها لتحقيق تطلعاتهم في النجاح الاقتصادي والاجتماعي بعد النجاح السياسي الاستثنائي.

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 60، تونس في 07 جوان 2018.

https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/34527399_1686463731429160_82827559540097024_n.jpg?_nc_cat=0&oh=bad8b9b44f37e7746f711ef20093151d&oe=5BB1C39E

 

 

 

 

 

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: