نحبّ البلاد كما لايحبّ البلاد أحد…

 

نحبّ البلاد كما لايحبّ البلاد أحد…

                                                                                     

جريدة الموقف بتاريخ 4 نوفمبر 2005

 

الى متى ستستمر السلطات التونسية في تجاهل مطالب الحركة السياسية  و المجتمع المدني  في اطلاق الحريات الفردية والعامة ؟   و الى أي مدى ستنجح لغتها الخشبية في التعاطي مع التحرّك النوعي الذي لجأ اليه  قادة الأحزاب و الجمعيات الذين اطلقوا حركة 18 أكتوبر بدخولهم في اضراب مفتوح عن الطعام ؟ و كيف تبدو آفاق هذا التجاذب  بين الحكم و المعارضة  في المرحلة القادمة؟

 

أعلن المضربون في بيانهم للرأي العام الذي وزعوه  يوم 18 أكتوبر  و خلال تدخلاتهم المختلفة في وسائل الإعلام بعد ذلك  ان حالة الانغلاق السياسي و سدّ جميع ابواب النشاط المدني المستقل  و تعطل الحياة العامة  هي التي دفعتهم الى ما اقدموا عليه .  و بالتالي فهم يعبّرون من خلال الاضراب المفتوح عن الطعام و تعريض صحتهم.. بل حياتهم  إلى الخطر الحقيقي  عن يأسهم من ادارة الحكم للشأن العام،  و يحمّلون السلطة المسؤولية الكاملة عن حالة الإحتقان في صفوف النخب و الجماهير الواسعة. و اذا كان الإضراب بهذا المعنى تعبيرًا عن اليأس  فهو بذلك ناقوس خطر و رسالة بليغة في التحذير ممّا تخبّئه المرحلة القادمة. وإذا علمنا_على سبيل الذكر لا الحصر_ أنّ من بين المضربين الأستاذ أحمد نجيب الشابّي صاحب المشوار السياسي الطويل في العهدين البورقيبي و النوفمبري، المعروف بإعتداله و برصانته ، و الذي طرق مختلف أبواب العمل السياسي السلمي المتعارف عليها، و الذي يتحمّل المسؤوليّة الأولى على رأس حزب قانوني لا ينكر مكانته المتميّزة في الساحة التونسيّة إلاّ جاحد، و الذي يعلم الجميع أنّ سنّه  جاوز الستّين و أنّ حالته الصحيّة  تبعث على القلق الشديد. إذا علمنا كلّ ذلك _ وربّما غيره_ أدركنا عمق الدلالة الرمزيّة لهذا الإضراب، الذي بقدر ما يعبّر عن حالة اليأس من الحكم يعبّر من جهة ثانية عن تصميم التونسيّين و في مقدّمتهم قادة الأحزاب و الجمعيّات على التمسّك بحقوقهم المشروعة و الذهاب بعيدًا في انتهاج جميع الأشكال السلميّة للدفاع عنها و حمل السلطات على الإعتراف بها.

ولعلّ الطابع الجماعي لهذا الإضراب بما رفعه من مطالب تتصّل بالحياة العامّة و بما ضمّ من عناصر ترمز الى التعدّد المهني من محامين و قضاة و صحفيّين و التنوّع الفكري و السياسي من اسلاميين و شيوعيين و ما بينهما و توحّد الأحزاب و الجمعيّات يعطي بعدًا نوعيًّا لهذا التحرّك الذي قد يشكّل منعرجًا حاسمًا في تاريخ نضال التونسيّين من أجل الحريّة و الكرامة      و الديمقراطيّة. فقد طال انتظار التونسيّين لتوحّد النخب النشيطة حول مطالب جامعة و برنامج عمل مشترك. كما أنّ التضامن الذي عبّرت عنه الأحزاب و الجمعيّات و الشخصيّات الوطنيّة    و بعض القطاعات المهنيّة، و المساندة التي لقيتها المبادرة في الجهات الداخليّة للبلاد تعطي لهذا التحرّك طابعه الوطني و زخمه الميداني، و هما هدفان لا يخفيان في اطلاق المضربين لهذا التحرّك من أجل خلق حالة نهوض سياسي حقيقي و ضاغط في وجه هجمة السلطة و تصعيد مضايقاتها للنشاط  السياسي و الحقوقي في الفترة الأخيرة.

فحركة 18 أكتوبر في جوهرها معركة ارادة  و عمل و طني كفاحي من أجل تجاوز حالة الإحباط و التردّد و المضيّ قدمًا من أجل تحقيق مواطنة حقيقيّة و تدشين مرحلة سياسيّة جديدة.

لذلك تبدو مبادرة السلطة منذ اليوم الأولّ لإنطلاق الإضراب الى نعت التحرّك ب”الغوغائيّة” و “الديماغوجيّة” و نفي و جود قيود على الإعلام و حريّة التنظّم ، و إنكار و جود مساجين سياسيّين بتونس، ثمّ  وصف المضربين لاحقًا ب”المناوئين” و اطلاق العنان لحملة إعلاميّة ضدّهم لمغالطة الرأي العام الداخلي و الخارجي بحقيقة تحرّكهم و اتّهامهم في وطنيّتهم..يبدو كلّ ذلك استمرارًا لذات اللغة الخشبيّة التّي عمّقت الأزمة السياسيّة ببلادنا و لم تساعد يومًا على حلّ أيّ من المشاكل المتراكمة.

واذا بقي من أمل في تقدير الحاكمين لبلادنا اليوم للمصلحة العليا فإنّه لا مفرّ من الإقرار بالأزمة و الكفّ عن مغالطة النفس و الآخرين و رفع الوصاية عن المجتمع و فتح مجال المشاركة السياسيّة على مصراعيه و ضمان الحريّات الفرديّة و العامّة و إخلاء السجون من نزلائها السياسيّين وإنهاء محاكمات الرأي وسنّ قانون العفو التشريعي العامّ ، وفتح حوار وطني متكافئ بين مختلف الأطراف دون إقصاء أو تهميش من أجل تأمين مستقبل سياسي أفضل لبلادنا من خلال وضع دستور جديد يكفل الديمقراطيّة خيارًا للأجيال الحاضرة و القادمة.

وليس من خيار أمام النخب الصادقة سوى التمسّك بحقوقها و العضّ عليها بالنواجذ و رفع التحدّي في وجه الاستبداد وتعبئة الرأي العامّ  وحشد الطاقات من أجل حياة حرّة كريمة و نظام ديمقراطيّ ومستقبل أفضل يصنعه التونسيّون بنضالاتهم و جهودهم في الإعمار و التنمية الشاملة و المستديمة.

وإذا كان الحكماء و المصلحون قد أكّدوا أنّ العدل أساس العمران وأنّ الإستبداد مؤذن بالخراب ، فإنّه لا يمكن إعتبار مبادرة بعض التونسيّين برفع أصواتهم عالية للتحذير من مخاطر الإستبداد آثاره التدميريّة على مختلف القطاعات و المجالات و الدعوة للإصلاح السياسي العاجل إستجابة لتطلّعات المجتمع و تفاعلاً مع المتغيّرات الدوليّة، لايمكن إعتبار ذلك سوى عمل وطني شجاع   و نبيل من أجل البلاد و العباد. فالمضربون ومن يتضامنون معهم ويساندون مطالبهم لا يبغون امتيازات خاصّة ولا يقبلون بأيّة مساومات على حساب المصلحة العامّة وقد نذروا أنفسهم منذ سنين للشأن العامّ لا يريدون جزاءً ولا شكورًا من أحد..وهم محبّون لبلادهم “كما لا يحبّ البلاد أحد” على حدّ قول شاعرنا الصغيّر أولاد أحمد.

 

                                                                                     محمّد القوماني

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* جريدة الموقف (أسبوعية تونسية) العدد 333بتاريخ 4 نوفمبر 2005

 

 

 

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: