من قطب واحد إلى أقطاب متعدّدة: العالم يتغيّر إيجابيّا..
جريدة الرأي العام، العدد11، تونس في 15 جوان 2017.
لا نخطئ حين نقول بأنّ سرعة التغيّرات وحجمها في عالمنا الحالي مطلع الألفية الثالثة، تجعلاننا نصف ما يحصل بمرحلة انتقالية بامتياز يكتنفها غموض كبير. وهذا ما يستوجب من المتابعين فضلا عن الفاعلين السياسيين خاصّة، وعيا بخصوصيات المرحلة من حيث الزمن الذي قد تستغرقه والآثار التي ستخلّفها على أكثر من صعيد. وقد مثّلت ثورات الربيع العربي أحد عناوين العالم الجديد، فكانت زلزالا لم تتوقّف ارتداداته على المنطقة والعالم إلى الآن. ولذلك تتحدّث مراكز البحوث عن تغيّرات جيوسياسية كبرى قادمة، وتبدو الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة الدولية الأولى و”شرطي العالم” حذرة وميّالة إلى الانطواء على الذات وتقليص حضورها الخارجي العسكري والاقتصادي أيضا، كما دعا إلى ذلك رئيسها الجديد ترومب في حملته الانتخابية. فقد عاش العالم لفترة طويلة نسبيّا هيمنة أمريكية بعد تفكّك الاتحاد السوفييتي وانكماش روسيا وعجز الاتحاد الأوروبي الناشئ عن ملء فراغ غياب التوازن في المشهد العالمي. وجاءت الأحداث الأخيرة في سوريا وتركيا وقطر مؤخرا، بعد مؤشرات أخرى سبقتها في محيط روسيا، لتؤكد ملامح عودة التوازن أو ربما تغيّر المعادلات لاحقا، بانتهاء مرحلة القطب الواحد الأمريكي وظهور أقطاب جديدة دولية وإقليمية، بما يعطي فسحة وفرصا لتطوّر الأحداث في مناطق الاشتباك أو التوتّر، ولا سيما فيما يعرف بالشرق الأوسط. فكيف يتجلّى ذلك في أزمة الخليج الحالية؟ وما ذا يتيح المشهد الجديد لدولة قطر “الصغيرة” من إمكانيات لمواجهة حصار الدول المقاطعة لها وتهديداتها؟
يتأكد الآن أكثر من أيّ وقت مضى أنّ حربا دولية بالوكالة شهدتها سوريا ويدفع شعبها تكلفة باهظة لها، بعد أن تمّ تحريف ثورته السلمية في سياق التآمر على الربيع العربي الذي انطلق مبكرا بعد مفاجأة نجاح الثورة التونسية وتداعياتها. وكان مسار الحرب الضروس ببلاد الشام عنوانا بارزا على تغيّر المعادلات الدولية. فلم يتيسّر لمن انخرطوا في تلك الحرب، من أيّ موقع كان وتحت أيّ عنوان، أن ينفّذوا أجنداتهم بالسرعة ولا بالنتيجة التي أرادوها. وبصرف النظر عن تلك الأجندات التي ليست موضوع اهتمامنا هنا، فإنّ المحصّلة من سجالات المعارك العسكرية والإعلامية والسياسية وغيرها، أنّ هيمنة القطب الواحد قد ولّت، وأنّ أمريكا ومن يدورون في فلكها، لم يعد بإمكانهم حسم الحروب أو توجيه الأحداث كما يخطّطون. وأنّ دخول الطرف الروسي بالقوة والوضوح الذين برز عليهما، فضلا عن الحضور الإيراني والتركي البارزين أيضا، كانت عناصر محدّدة في الحرب الدائرة بسوريا ونتائجها التي لم تؤِل لأيّ طرف إلى حدّ الآن، وأنّ تلك العناصر ستتحكّم في تداعياتها على المنطقة وعلى مستقبل حسم الملفّ السوري ومستقبل المنطقة سياسيّا.
من جهة أخرى كان مصير محاولة الانقلاب الفاشلة بتركيا في الصائفة الماضية مثالا آخر يعزّز ما ألمحنا إليه. فقد كانت دهشة العالم كبيرة أمام مشهد قصف الطائرات العسكرية التركية للبرلمان التركي رمز سلطة الشعب ومحاولة اغتيال الرئيس المنتخب أيضا، واحتلال الدبابات والعساكر للساحات والمواقع الهامة والهيمنة على التلفزيون العمومي والترويج لسيناريو تغيير النظام. وكانت دهشة العالم أيضا أمام تصرّف عموم الشعب التركي الذي استجاب بسرعة فائقة لنداء رئيسه أردوغان في مكالمة هاتفية قصيرة بثّتها إحدى القنوات الخاصة. وخرج الأتراك من مختلف المشارب الفكرية والسياسية بصدور عارية ليحموا ديمقراطيتهم وليواجهوا الدبابات والعساكر في مشهد سريالي لن ينساه العالم، وليجبروا الانقلابيين على الاستسلام ويحبطوا مخططهم خلال ساعات حاسمة. ويتبيّن لاحقا أن جنرالات في الجيش “العلماني” كانوا يتلقّون أوامر من زعيم جماعة “دينية باطنية” في مواجهة حزب العدالة التنمية “الإسلامي” الذي يرمز للحداثة والديمقراطية، وأنّ محاولة الانقلاب حظيت بدعم أمريكي وأطلسي. كما تبيّن في المقابل أنّ الرئيس أردوغان وأركان نظامه تعاونوا مع الروس والإيرانيين وغيرهم لإحباط محاولة الانقلاب. وتطوّرت العلاقات بين تركيا العضو بالحلف الأطلسي، وبين روسيا الخصم التقليدي للحلف، إيجابيا وبسرعة فائقة، بعد أن كان الطرفان على مشارف مواجهة عسكرية خلال الأسابيع التي سبقت، بسبب الخلاف حول الملف السوري وتداعيات التدخل الروسي العسكري.
نستحضر هذه المعطيات المختزلة، لنستشرف أفق أزمة الخليج الحاليّة. فبعد إعلان الدول المقاطعة لقطر حصارها وإطلاق حملتها بعناوينها المتعدّدة، سارعت إيران إلى إعلان استعدادها الكامل لمساعدة قطر وتزويدها بما تحتاج وفكّ الحصار عليها برّا وبحرا وجوّا. كما طار وزير الخارجية الإيراني إلى أنقرة للالتقاء بأردوغان ومسؤولين آخرين للتباحث في معالجة تداعيات الأزمة. وسارع البرلمان التركي للمصادقة على اتفاقية عسكرية تتيح نشر قوات تركية على الأراضي القطرية وكانت الرسالة واضحة. وخطب أردوغان لاحقا ليؤكد أن قطر لن تبقى وحدها. وجاء الموقف الألماني سريعا وصادما في رفض الحصار، كما كشفت مباحثات وزير خارجية قطر مع نظيره الروسي بموسكو موقفا إيجابيا لصالح قطر.
أوردنا بعض المعطيات الدولية لصالح قطر، دون الاهتمام بتوسّع المقاطعة في الجانب الآخر والتحركات الدبلوماسية المحمومة على هذا الصعيد والتذبذب الواضح في الموقف الأمريكي، لنخلص إلى أنّ قطر في حالة استمرار الأزمة أو تصعيدها، لن تجد نفسها معزولة كما توقّع خصومها ربّما، ولن يجبرها ميزان القوى المختلّ أصلا على الاستسلام السريع لمطالب مقاطعيها. فالمعطيات في هذه الأزمة تعزّز ما أسلفنا من قول بنهاية القطب الواحد. وأنّ تعدّد الأقطاب الذي ذكرنا بعض عناوينه فقط، ولم نعرض لبقية المشهد الدولي والأدوار المتعاظمة لأطراف جديدة على غرار الدور السياسي للصين وغيرها، يؤشر على أنّ العالم يتغيّر يسرعة وأنّ تعدّد الأقطاب يعطي لقطر سيناريوهات متعدّدة غير ما يروّجه من يكسلون على تأمّل المشهد الدولي الجديد ويرتاحون لتمثّل سيناريوهات من الماضي لم تعد الظروف تسمح بتكرارها.
بقيت ثلاثة أمور هامّة يتأكد التنبيه إليها على خلفية هذه الأزمة. أوّلها أنّ ما أشرنا إليه يؤكد القاعدة بأنّه لا توجد تحالفات ولا خصومات دائمة بل مصالح متقاطعة. فإيران وروسيا وتركيا خصوم الأمس في الملف السوري قد نجدهم حلفاء الغد في أزمة قطر. وثانيها أنّ استهداف مخرجات الربيع العربي، خاصّة التمرّد على الاستبداد وخنق الحريات الفردية والجماعية والتطلّع إلى الديمقراطية، تجديف ضدّ تيّار لن تصدّه قوّة مهما كانت عن بلوغ مداه، مهما حصلت من انتكاسات هنا أو هناك. وأنّ الحكمة والبصيرة والواقعية والمصلحة، تستدعي مراجعة الأخطاء وتطوير التعامل مع مقتضيات المشهد الجديد والدخول في الزمن الديمقراطي. وثالثها أنّ مواجهة الخطر الإرهابي المتعاظم والمشترك، تقتضي تعبئة القوة وتوحيد الجبهة وليس إضعافها بتقسيمها واتهام بعض أطرافها بالتورّط في ألإرهاب أو دعمه. فمرّة تتّهم المقاومة ممثّلة في حزب الله أو حماس، ومرّة تتّهم دول على غرار قطر أو إيران أو السعودية أو الإمارات، ومرّة تتّهم شخصيات أو جمعيات أو أحزاب معروفة باعتدالها…والأصل أن لا مصلحة في تبادل الاتهامات التي تفقد مفهوم الإرهاب مضمونه المشترك وفعاليته في المعركة. فعالم أفضل صار أكثر ممكنا.
محمد القوماني