من سنة مناكفات إلى سنة انتخابات: أفق الاستقرار في ظلّ الهزّات
كانت 2018 التي طوينا صفحاتها سنة المناكفات الحزبية والسياسية بامتياز. فقد استغرق الخلاف بين الفاعلين السياسيين أو الاجتماعيين حول تغيير رئيس الحكومة يوسف الشاهد كامل الفترة، لينتهي إلى إعلان نهاية التوافق والدخول في أزمة مفتوحة بين قرطاج والقصبة، لازلنا نعيش على وقعها. وها أنّنا ندخل سنة 2019 التي ستعرف انتخابات عامة تشريعية ورئاسية في نهايتها، ونحن نجرّ تداعيات أزمة سياسية خانقة، تغذّي احتقانا اجتماعيا حادّاّ في موسم الاحتجاجات. فكيف نقرأ ملامح سنة الانتخابات في ضوء تداعيات سنة المناكفات؟ وهل يصمد الاستقرار الحكومي وسط هزات اجتماعية وسياسية متوقعة؟
نحتاج إلى تنشيط للذاكرة لربط حلقات الماضي والحاضر والمستقبل، فنختزل أهم المحطات السياسية للسنة المنقضية. فقد جاءت دعوة الأمين العام لمنظمة الشغالين نور الدين الطبوبي مطلع 2018 “لضخّ دماء جديدة في الحكومة”، وكان ذلك عقب انسحاب أحزاب الجمهوري وآفاق والمشروع من وثيقة قرطاج. ولم يتأخر ردّ الشاهد في حوار له حين شدّد على أنّ حق الاتحاد في النقد باعتباره أحد أطراف وثيقة قرطاج مشروع، لكن “تغيير الحكومة يبقى من صلاحيات رئيسها فقط”، وهو لا يرى حاجة إلى التعديل الآن.
وكانت الجلسة العاصفة بالبرلمان يوم 26 مارس 2018 حول التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة مؤشرا واضحا على تصدّع ائتلاف الحكومة الوطنية، عقب تباعد كان يكبر بين حزبي النداء والنهضة، عقب صدمة نتائج الانتخابات الجزئية في دائرة ألمانيا، نهاية عام 2017. ولم يمنع الخلاف بين الحزبين اتفاقهما على رفض استعجال الاتحاد تغيير الحكومة، وتأجيل ذلك إلى ما بعد الانتخابات البلدية في 6 ماي وجهودهما المشتركة لانتخاب رئيس جديد لهيئة الانتخابات خلفا لشفيق صرصار المستقيل وتسديد الشغور.
عاد الطبوبي إلى المطالبة بالتغيير نهاية شهر ماي، وانطلق حوار وثيقة قرطاج2 في الغرض. وكانت نتائج الانتخابات المحلية التي تقدم فيها حزب النهضة، سببا لخلافات وتحالفات جديدة. فقد اتفق المتحاورون في قرطاج2 على 63 نقطة في برنامج الحكومة المنشودة، لكنهم اختلفوا في النقطة 64 حول حدود التعديل الوزاري وطبيعته وهل يشمل وجوبا تغيير الشاهد على رأس الحكومة. فكان التقارب بين النداء واتحاد الشغل في مقابل النهضة التي فضلت التمسك بالاستقرار الحكومي. ولم تنجح الاجتماعات المتتالية في تطويق الخلاف، وتبين أن رئيس الجمهورية يرغب في تغيير شامل أيضا، وتعطلت كيمياء التوافق بين الباجي والغنوشي، فكان إعلان تعليق حوار قرطاج2 في 16 جويلية 2018.
وفي أجواء الاحتقان السياسي وتصدّع الائتلاف الحاكم، بدأت إشاعات سيناريوهات انقلابية، ثم جاء قرار إقالة وزير الداخلية لطفي براهم. وكانت جلسة 28 جويلية لتزكية الفوراتي وزيرا جديدا للداخلية، مؤشرا على ميلاد تحالف جديد بين كتلة النهضة وكتلة الائتلاف الوطني الناشئة بالمجلس التي ضمت مستقيلين من النداء وأحزاب وكتل أخرى. وعقب ذلك إعلان رئيس الجمهورية في حوار له يوم 24 سبتمبر نهاية التوافق بينه وبين حركة النهضة ورئيسها. ثمّ جاءت الندوة الصحفية لهيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي يوم 02 اكتوبر لتلقي بقنبلة اتهام حزب النهضة بامتلاك جهاز سري وبالتخفي على وثائق خطيرة ذات صلة بالغرفة السوداء بوزارة الداخلية. واتخذت المناكفات الحزبية والإعلامية والسياسية أبعادا جديدة وتشنجا أكبر. وكان خطاب 13 أوت 2018 مختلفا عمّا سبقه في 2017 حول مبادرة المساواة في الإرث. وصارت رئاسة الجمهورية طرفا في الصراعات المختلفة، لا سيما بعد تزكية التحوير الوزاري في 12 نوفمبر رغم عدم موافقة رئيس الجمهورية عليه ومقاطعة حزب النداء للجلسة. وعاد التوتر بالبرلمان حول الموقف من صندوق الكرامة والعدالة الانتقالية بمناسبة نقاش الميزانية. ومع اقتراب شهر جانفي صار المشهد أكثرا شحنا وتعقيدا.
فالمناكفات السياسية لم تغطي في أية مرحلة عن أزمة اقتصادية واجتماعية متفاقمة. فمعدّلات البطالة لم تتراجع ولم تتحسّن أوضاع الجهات والفئات المهمّشة، بل ارتفعت الأسعار وضعفت القدرة الشرائية. ولم تنجح سياسات الحكومات المتعاقبة في المحافظة على توازنات المالية العمومية، ولا في خلق الثروة، ولا في وضع حدّ للنزيف الاقتصادي، ففاقت المديونية السبعين بالمائة، واستمر الدينار في الانزلاق، وارتفع العجز التجاري إلى مستوى قياسي، وافتقدت في الأسواق مواد أساسية مثل الدواء والحليب والسميد والبيض، واستمرت المؤشرات الاقتصادية عموما في التراجع، وصار الخبراء يحذّرون من إعلان حالة إفلاس حقيقية.
ومن جهة أخرى لا وضوح في نتائج الحرب المعلنة على الفساد من أكثر من عام. ولا مصداقية للإجراءات المعلنة في حقّ بعض المتّهمين في التورط فيه ولا في الملفات المحالة على أنظار القضاء المعلنة من جهات عديدة. بل إنّ المؤشرات وأحاديث المجالس تشي بمزيد استشراء الفساد في مؤسسات الدولة الحيوية وفي استعمال الملفات فقط للمساومات السياسية وخدمة أجندات هذا الطرف أو ذاك. ولا تقدّم يُذكر في وضع حدّ للتسيب في الإدارات والمؤسسات وتراجع العمل والإنتاجية، ولا أمل في وضع حدّ لنزيف الشركاتت العمومية وترشيد حوكمتها، بعد أن صارت عبءا ثقيلا على ميزانية الدولة بدل المساهمة في تقوية موارها. ويقف الجميع متفرجين على انهيار المدرسة العمومية التي تظلّ ملاذ عموم التونسيين ومصعدهم الاجتماعي الأول لتحسين أوضاعهم. وترتفع نسبة الجريمة لتتحول إلى إرهاب مجتمعي بالأسلحة البيضاء، يفوق خطره الإرهاب الأيديولوجي بالأسلحة النارية. والأدهى من كل ما سبق والأمرّ منه، أن لا حضور لهذه القضايا الحارقة وغيرها مما لا يتسع المجال لذكرها، في برامج المتصارعين عن الحكم في مختلف مستواته.
ومن اللاّفت حقّا أنّه بعد أربع سنوات من إقرار الدستور وفي نهاية المدّة البرلمانية، لم يستكمل مجلس نواب الشعب وضع القانون المنظّم للهيئات الدستورية ولم ينتخب أعضاءها ولم تتأسس هذه الهيئات التي عدّت من أهم مكاسب دستور الثورة. فاستثناء “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات” التي تعمل في ظروف صعبة، فإنّ “هيئة الاتصال السمعي والبصري” و”هيئة حقوق الإنسان” و”هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد” مازال أعضاؤها معيّنين وتعمل بصورة وقتية. أمّا “هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة” فلا وجود لها أصلا بعد. وكذلك المحكمة الدستورية التي نص الدستور على إرسائها في أجل أقصاه سنة بعد الانتخابات.
في ظل هذا الحصاد السلبي لسنة 2018، يبدو تنظيم الانتخابات البلدية وتركيز مجالس الحكم المحلي إنجازا استثنائيا بلا مبالغة، فتح آمالا عريضة في تكريس الباب السابع من الدستور وتغيير نمط الحكم من المركزية إلى اللامركزية وإفساح المجال لجيل جديد من المسؤولين من النساء والشباب خاصة. ولا يمكن لهذا المكسب أن يتعزّز ويمتلك أسباب النجاح، إلا عبر استكمال مسار الانتقال الديمقراطي في بقية عناوينه. ونخصّ بالذكر استكمال الهيئات الدستورية وتوفير أفضل الظروف لتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية يقبل الجميع بنتائجها وتعزز حظوظ نجاح العدالة الانتقالية وتحقيق المصالحة الوطنية، لنطمئن على مستقبل تونس وقدرتها على التعافي ورفع مختلف التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
قد يكون اللقاء الأخير يوم 28 ديسمبر 2018 بقرطاج، الذي جمع فيه رئيس الجمهورية أهمّ الفاعلين السياسيين والاجتماعيين مجدّدا، بارقة أمل في نهاية ىسنة واستقبال أخرى. فقد تباحثوا في الأزمة بين اتحاد الشغالين والحكومة أساسا، وسط أجواء الاحتقان الاجتماعي والسياسي والحديث عن سيناريوهات للفوضى تتهدّد البلاد، وتواعدوا على الالتقاء قريبا للنظر في نتائج الحوار المستأنف بين الاتحاد والحكومة لتلبية طلبات الشغالين في حدود إمكانيات الدولة في هذه المرحلة واجتناب الإضراب العام المقرر ليوم 17 جانفي 2019. لكن ذلك على أهميته يبدو غير كاف لإنهاء أزمة سياسية تدخل عامها الثاني.
فلم يعد خافيا أنّ الوضوح من مختلف الفاعلين حول الاستحقاق الرئاسي القادم وتجلية الغيوم حول ساكن قرطاج في السنوات الخمس القادمة، بات أكثر من ضروري لخفض التشنج والمساعدة على عودة أجواء التوافق وتجاوز الأزمة القائمة. وغير بعيد عن ذلك بات الوضوح أكثر إلحاحا حول مستقبل الشاهد ومشروعه السياسي، ومدى وجاهة بقائه على رأس الحكومة، في حالة تزعمه لحزب جديد سيتم الإعلان عنه قريبا، ويطرح نفسه منافسا أساسيا في الاستحقاق الانتخابي التشريعي والرئاسي القادم. فهل يكون حوار قرطاج الجديد منطلقا للتوافق مجددا على معالم السنة الانتخابية، لتعطى الإشارة إلى التوافق على استكمال المسار وتجاوز الخلافات والعراقيل حول انتخاب رئيس جديد لهيئة الانتخابات خلفا للتليلي المنصري المستقيل وسدّ الشغور، وانتخاب بقية أعضاء المحكمة الدستورية في البرلمان وتعيين البقية لتنتصب هذه المؤسسة الحيوية التي تأخرت أكثر من اللزوم عن موعدها الدستوري، والمصادقة على قانون معدّل للانتخابات. وتلك أهم الخطوات المستعجلة التي حملتها كلمة رئيس الجمهورية لطمأنة التونسيين بمناسبة السنة الجديدة.
وإنّنا نجزم دون تردّد، بأنّ الصراع حول مختلف العناوين وغيرها سيظلّ مستمرّا بنفس التجاذبات والآليات، وأنّ الاستقرار سيظل مهدّدا بهزّات لا تتوقف، ما لم ننفذ إلى معالجة المشاكل السياسية التي ذكرنا، قبل فوات الأوان، وما لم يكن للوطن ومشاكل الناس ومطالبهم الحظ الأوفر في الصراع عن الحكم. فالمكاسب “التكتيكية” لا تغني عن مآزق المسائل “الاستراتيجية” ولا تحسمها. وأنّه لا بديل عن تسوية شجاعة، تشمل الجوانب السياسية والاجتماعية والمجتمعية وغيرها.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد89، تونس في 03 جانفي2019.