من التعطيل إلى التقويض: الرئيس سعيد يستعجل حكما رئاسويا فرديا

       جاء خطاب رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 18 أفريل 2021 بمناسبة إشرافه على موكب الاحتفال بالذكرى الخامسة والستين لعيد قوات الأمن الداخلي، ليكشف أكثر من أي وقت مضى شراهته لحكم استبدادي فردي، ومروره إلى سرعة قصوى في تعطيل العمل بدستور 2014  وتقويض نظام الحكم عبر “آلية قانونية” تعتمد التأويلات الفردانية والشاذة لأحكام الدستور، كما وصفها رئيس الحكومة هشام مشيشي في نفس اليوم. ويعرّض رئيس جمهورية للخطر، حقيقة لا مجازا، الاستقرار السياسي ووحدة الدولة المستأمن عليها بمقتضى الدستور، حين يعادي بوضوح  مراكز السلطة الأخرى في القصبة وباردو، ويقحم المؤسسة الأمنية في التجاذبات السياسية بإعلان نفسه قائدا أعلى لها والسطو على صلاحيات رئيس الحكومة في هذا المجال. علاوة على تحريصه المباشر لقوات الأمن  على منتقديه من نواب الشعب، وإعلانه الصريح  للحرب على خصومه، مستندا إلى معجم جاهلية العرب ومقتبسا من الشاعر امرؤ القيس قوله: “اليوم خمر (صبر) وغدا أمر”.

       كثيرا ما يحلو للرئيس قيس سعيد أن يردّد في خطاباته أنّ دستور 2014 قُدّ على المقاس. وهذا كلام صحيح على معنى أنّ الدستور الذي وضعه المجلس الوطني التأسيسي كان على مقاس ثورة الحرية والكرامة ضدّ حكم استبدادي فردي، شارك أغلب المؤسسين في مقاومته،  ولم يكن الأستاذ قيس سعيد من بينهم. وإذ حرص المؤسسون على ضمان الحقوق والحريات والفصل بين السلطات وتوزيع السلطة مركزيا وأفقيا، ووضع هيئات دستورية مستقلة للرقابة، يحاول الرئيس سعيد اليوم من باب احتكار تأويله، أن يضع دستور الثورة تعسّفا على مقاسه الرئاسوي. ولا يجد المتابع الموضوعي عنتا في الاستدلال من خلال وقائع عديدة على أنّ المشكلة في نهج رئيس الجمهورية وليست في الدستور على نواقصه، وأنها انطلقت مبكرا وأخذت في التفاقم.

       فالرئيس سعيد الذي ركّز في حملته الانتخابية على أنّ “الشعب يريد” وهو يعرف جيدا ماذا يريد، ولا يحتاج إلى “برنامج” بل إلى “أدوات قانونية” لتحقيق ما يريد، لم يتقدم بعد حوالي عام ونصف من حكمه بأيّة مبادرة تشريعية إلى البرلمان، الذي لم يخف منذ البداية عدم الارتياح له، بل عمل على استهدافه بوسائل مختلفة. وها نحن نكتشف تدريجيا أن رئيس الجمهورية يتّخذ من احتكاره لتأويل الدستور، “وسيلة قانونية” لتغيير طبيعة نظام الحكم، من شبه برلماني إلى نظام رئاسوي. وهذا ما يفسّر جانبا مهما من خلفيته في وضع كل ثقله وحلفائه، من أجل تعطيل مسار المحكمة الدستورية، والتي قال بوضوح أنها تجاوزت الأجل الدستوري المحدّد لإرسائها وصارت في وضع المستحيل، وأنه لن يختم قانونها.  وهو يتمدّد في صلاحياته مستفيدا من غيابها.

       فبعد ترذيله للأحزاب شكلا ومضمونا في مسار تشكيل الحكومة، وتعيينه للشخصية الأقدر لرئاستها على مزاجه، وخلافا لإرادة الأغلبية البرلمانية، والتدخل السافر والواسع في تعيين الوزراء، وجدنا الرئيس سعيد يختلف مع مشيشي الذي  اختاره، ويستعديه لاقترابه من الأحزاب والعمل معها في البرلمان، ويعمل عل عرقلته والإطاحة به. وحين أقال رئيس الحكومة وزراء محسوبين على قرطاج، غضب رئيس الجمهورية ولجأ إلى تأويل شاذ لإجراء أداء اليمين الدستورية ليعطّل التحوير الوزاري الذي زكّاه البرلمان.  وبعدما اتضح من خلال الممارسات والتسريبات أنّ قرطاج يستهدف الاستقرار البرلماني، من خلال التقاطع مع أجندة الكتلة الفاشية وربما التنسيق معها والتغطية على تجاوزاتها، ومن خلال التنسيق الواضح مع المعارضة والانحياز إليها ضدّ الحزام الحكومي، والتشجيع على سحب الثقة من رئيس البرلمان راشد الغنوشي، ومن خلال الترويج للدعوات الشعبوية لحلّ البرلمان على الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية. وبعد المؤشرات المتعدّدة على محاولة التدخل في مسار العدالة والمس ّ من استقلالية السلطة القضائية، ها أنّ الرئيس سعيد يظهر شراهة في العودة الحكم الاستبدادي الفردي ويستعجل الأمر في منحاه التسلّطي من خلال المجال الأمني.

       فبإعلان نفسه قائدا أعلى للقوات المسلحة العسكرية والأمنية المدنية، في تأويل شاذ لأحكام الدستور وفي تجاهل واضح لفصوله العديدة، لا سيما الفصول 17 و18 و19 التي تميّز بين القوات المسلحة والأمن الوطني. وبشطبه لتشريع أقسم على احترامه، باعتبار القانون 32 لسنة 2015 المنظم للتعيينات في المناصب العليا في الدولة، المنشور منذ سنوات بالرائد الرسمي والجاري به العمل، قانونا لا دستوريا، يسطو رئيس الجمهورية على صلاحيات هامة لرئيس الحكومة ويؤكد نهجه في التماهي مع نصوص الدستور ووضع نفسه فيصلا بين الفصول، وجعل صلاحياته مطلقة ومؤسسة لأفعال لا يمكن لأية جهة ردّها أو إيقافها. وبذلك يقوّض رئيس الجمهورية الدستور ونظام الحكم من داخله. ويستعدي المراكز الأخرى للسلطة في باردو والقصبة، ويخلّ بوضوح بواجبه في ضمان وحدة الدولة المستأمن عليها يمقتضى الدستور. ويقحم الأمن الجمهوري في التجاذبات السياسية وهذا أخطر ما في الأمر. إذ لم يعد مستبعدا بناء على ما سبق شرحه أن يُقدم رئيس الجمهورية على تعيين وزيرا للداخلية ومسؤولين في مواقع أمنية، وبذلك يكون المنعرج في مواجهات محتملة داخل المؤسسات تهدّد وحدة الدولة التي لا ينفك الرئيس سعيد يذكر أنّه لن يسمح بتفكيكها.

       يبدو الوضع السياسي خطيرا جدا، مما يفاقم خطورة الأوضاع الصحية والاقتصادية والاجتماعية التي تظل ذات الأولوية. وقد تتدحرج الأمور إلى ما لا يحمد عقباه وندخل مرحلة عصيبة إذا استمر رئيس الجمهورية في خياراته التي صارت مُعلنة. واستشعارا منها لخطورة الوضع، وتحمّلا لمسؤولياتها، بادرت بعدُ حركة النهضة وأحزاب أخرى وشخصيات سياسية وحقوقية وخبراء في القانون وإعلاميون إلى إعلان رفضهم الواضح لخطاب الرئيس سعيد الأخير، والعزم على حماية المسار الديمقراطي الذي صار مهدّدا بهذا النهج التسلطي الواضح لرئيس الجمهورية. وقد تأتي الأيام القادمة بمبادرات عملية لافتة في هذا الاتجاه.

       ويتأكد أكثر من أيّ وقت مضى، أنّ رفض الحوار الوطني واعتماد معجم حربي، سيكون مكلفا جدا على البلاد والعباد. فلا الجنوح إلى الاستبداد والحكم الفردي، ولا الصراع العاري عن الحكم، ولا الفوضى وإدارة التوحش، سيناريوهات تفتح أفقا لبلد يغرق رغم الفرص الاستثنائية المتاحة له. وإذا لم يثب الجميع إلى رشدهم، ليستثمروا إيجابيا في ثورتهم الرائدة واستثناءهم الديمقراطي، أو لم يأخذ العقلاء منهم على أيادي المغامرين لمنعهم من خرق سفينة الوطن، سيغرق الجميع بلا شك وتسقط التجربة بين أيدي أهلها، ولن ينفع بعد ذلك تلاوم أو ندم أو جدال حول تحميل المسؤولية. ولن يكسب الناس شيءا ينفعهم من وراء ذلك.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 203، تونس  في  22 أفريل 2021  

   

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: