معالجة هادئة لأوضاع متفجّرة

 

معالجة هادئة لأوضاع متفجّرة*

جريدة المغرب بتاريخ 31/05/2012

تتعدّد مظاهر الأزمة وعناوين المشاكل الكبرى التي نواجهها في هذه المرحلة الانتقالية، لكن تظل المشكلة السياسية هي الأبرز، وهذا الترتيب للمشاكل يظل أقرب إلى القاعدة وليس استثناء. فالعنوان السياسي يختزل دوما النجاحات أو الإخفاقات. ويكفي أن نذكّر بأن التونسيين حين ضاقوا ذرعا من البطالة والتهميش والحيف خرجوا مطالبين بالشغل في البداية ثم سرعان ما أصبح شعارهم المُوحّد “الشعب يريد إسقاط النظام”. وفي هذه المرحلة نلاحظ باستمرار تزامن احتداد التجاذب السياسي داخل المجلس التأسيسي أو خارجه، مع ارتفاع وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية وانزياح المشهد نحو العنف وتعطيل المصالح وهشاشة الوضع الأمني. وربما لا نبالغ حين نحذّر من تحوّل التجاذب السياسي والأيديولوجي والمناكفة الحادة للحكومة، أو شيطنة الخصوم، إلى نوع من الغطاء السياسي للجريمة العامة والسياسية بأنواعها، وتهديد لسلطة الدولة دون إدراك للعواقب الخطيرة لمثل هذا المسار على مستقبل البلاد والعباد.

ولا أعتقد أنّ تونسيا سليم البنية النفسية والذهنية، لا تشغله حالة بلادنا خلال هذه الفترة، ولا يتشاءم وهو يتابع الأوضاع المتفجّرة التي تؤشر عليها سلسلة الاضرابات العامة الجهوية والقطاعية أو عودة مهاجمة مراكز الأمن وإحراقها أو استعمال القوة والعنف من قبل بعض المجموعات المتشدّدة دينيا لتغيير ما يرونه منكرا، أو طرد المسؤولين أو قطع الطرقات أو إثارة النعرات الجهوية أو الترويج لخطابات التكفير والتخوين والدعوة إلى القتل أو محاولات التهريب بالقوة واستباحة حدود البلاد، وغيرها من مظاهر استضعاف سلطة الدولة والاستهتار بالقوانين.

كما لا أعتقد أن التونسيين تخفى عليهم دوافع التجاذبات السياسية وانعكاساتها على هذا المشهد الهشّ، الذي تزيده المؤشرات الاقتصادية الصعبة تأزّما. فتأخر مسار العدالة الانتقالية، وعدم التوصل إلى تسويات بين الخاسرين من الثورة والمستفيدين منها، وعدم الوضوح في مسار المصارحة والمحاسبة والمصالحة، الذي يقول به جميع الفاعلين ولا يتقدم في مستوى الممارسة، وأزمة الثقة الحادة بين النخب الجديدة الممسكة بمقاليد الحكم وبين خصومهم ممن هم خارجه، من حكام الأمس أو من أصدقاء المعارضة في السابق، وتبادل تهم الاحتكار ونزعة الهيمنة غير المشروعة على الدولة من جهة، أو عدم التسليم بنتائج الانتخابات الحرة والتآمر على السلط الشرعية من جهة أخرى، ورهانات الانتخابات القادمة التي لم يتحدّد بعد إطارها ولا ملامحها، هذه الدوافع وغيرها تظل ألغاما تهدّد المسار الانتقالي ما لم نبادر بشجاعة وإرادة صادقة من الجميع إلى تفكيكها. والخشية كل الخشية، أن يتسلّل بقايا النظام السابق وسط هذه الألغام، فهم أهل الخبرة والمكر والمقدرة، وتسقط الثورة في أيدي من لا ينفكون عن ادّعاء حمايتها.

ولعلّ ممّا يزيد أوضاعنا صعوبة وتعقيدا، أننا إزاء هذا المشهد السياسي الذي يحتاج إلى معالجة رصينة ومسؤولة وعاجلة، ليفسح المجال لمواجهة مشتركة للتحدّيات الحقيقية الكبرى ببلادنا وفي مقدمتها التشغيل والتنمية الجهوية وضمان الأمن والاستقرار بكافة الجهات وعلى الحدود، إزاء ذلك نجد مشهدا سياسيا حزبيا غير متوازن ومُشتتا إلى حدّ الإرباك والعجز. وحتّى دعوات التوحّد وإعادة التشكل التي أطلقت عقب الانتخابات، نراها تتراجع دون أن تثمر، بل تفسح المجال لمزيد الانقسامات وإعلان الأحزاب الجديدة. وهذا ما يلقي المسؤولية في هذا المستوى، على عاتق من هم خارج الحكم، لرفع تحدي خلق القوة الحزبية اللازمة للتوازن الذي تظل الديمقراطية مهدّدة في غيابه. فبلادنا بصراحة لا تتحمل هذا العدد من الأحزاب، والتعددية إذا صارت مجرّد أرقام وتسميات دون فاعلية أو تأثير في مُجريات الأمور واتجاهات القرارات، تظل بلا معنى. وهذا ما يستوجب دون مُواربة تقليص عدد الاحزاب إلى الحدّ الأدنى، بإرادة القائمين على الأحزاب أولا وبتطوير قانون جديد للأحزاب ثانيا، يفرض تنظيمها على أسس تضمن فعاليتها ويمكنها من المقدرة اللازمة لأداء مهامها.

ولا عجب في ظل هذا المشهد الحزبي المُشتت والضعيف، أن ينحى من اختاروا التمترس في المعارضة، في مرحلة تأسيسية، إلى الاكتفاء بالاحتجاج وتضخيم الأمور ولخبطة الأولويات وخلط الأوراق السياسية، وجعل مناكفة الحكومة، هدفا في حدّ ذاته، وجرّ المشهد إلى الاستقطاب الأيديولوجي والاصطفاف السياسي، فاحتد التشنّج وغابت الاقتراحات البناءة وضاعت مشاغل الناس ومعاناتهم، في تضاريس التجاذبات السياسية والمعارك الحزبية. وبالتوازي ضاعت المقاربات الأخرى من خارج الائتلاف الحاكم، على تنوّعها، وخفتت أصواتها وسط مشهد إعلامي يميل إلى المُشاحنات ويفضّل المفرقعات الخطابية. فازدادت حيرة المواطنين، الذين تزداد نسبة عزوفهم عن الانخراط في الأحزاب أو حتّى مجرد متابعة حوارات السياسيين وتبيّن مقارباتهم المختلفة. وعلى عاتق هؤلاء جميعا يقع عبء الفشل المتكرّر في تعديل موازين القوى والتأثير الايجابي في المشهد، الذي لن يتم تجاوزه، بغير مراجعة جريئة  للخطاب الثقافي وللتمشي السياسي المعتمدين، ولصيغ بلورة الخيارات الصائبة وبناء القرارات الديمقراطية الجامعة.

أما من جهة الماسكين بمقاليد الحكم، فهم على ما يبدو، ما يزالون تحت وقع نشوة الانتصار في الانتخابات، وردّ الفعل على الخاسرين من “جماعة الصفر فاصل”، بما يجعلهم يصمّون الآذان على كلّ نقد أو دعوة للمراجعة أو التعديل، يُراوحون مكانهم بين شيطنة الخصوم أحيانا، والتردّد في اتخاذ القرارات التي لا تتحمل الانتظار، وبين مغالبة المشاكل المعقّدة والتركة الثقيلة التي تنوء بحملها قُدرات الترويكا الحاكمة.

ولهؤلاء نقول بوضوح، أن معالجة ناجعة للمشاكل التي تتخبط فيها بلادنا، لا يمكن تأمينها دون رسائل طمأنة سياسية ذات مصداقية، تبدّد التردّد وتساعد على بناء الثقة وتزرع الأمل. وذلك بالإسراع في بذل جهود أكبر لتوسيع مجال التشاور والمشاركة السياسية، لتكريس الحوار الوطني مع مختلف الأطراف السياسية، داخل المجلس التأسيسي وخارجه، وإشراك قوى المجتمع المدني والأطراف الاجتماعية وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل، وحسن تقدير رصيده التاريخي ومشاركته في إنجاح الثورة ووزنه الوطني. من أجل تكريس وفاق وطني يعطي رسالة ايجابية متأكدة لشعبنا في هذه المرحلة، ويمكّن من تكامل الطاقات والجهود، بعد مرحلة، لا ينكرها أحد، من التصحّر والتفقير للساحة السياسية والمدنية، من أجل مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية الجمّة التي نعدّها من أولوياتنا الوطنية. ويوفّر القوّة السياسية اللازمة لضبط أمن البلاد في الداخل وعلى الحدود، ومكافحة الجريمة، وبسط سلطة الدولة، دون أيّ تراجع أو تضادّ مع مسار بناء النظام الديمقراطي والقطع مع منظومة الاستبداد والفساد وتكريس التعدّدية والاختلاف.

                                                             محمد القوماني

الأمين العام لحزب الإصلاح والتنمية

goumani.med@gmail.com

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*معالجة هادئة لأوضاع متفجّرة” منشور بجريدة “المغرب” (يومية تونسية)  بتاريخ 31/05/2012 وبجريدة الضمير (يومية تونسية) بتاريخ 31/05/2012

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: